توتر جديد في العلاقات التركية – الألمانية
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
لم تكن العلاقات التركية – الألمانية يوماً ما في أحسن حالاتاها، لكنها دخلت منذ أيام في مرحلة تأزم جديدة لأسباب مستجدة بنت على تراكمات سابقة.
ثمة ميزتان عامتان تحكمان العلاقات التركية – الألمانية على مدى فترة زمنية طويلة، وهما التعاون الاقتصادي والخلافات السياسية. فألمانيا هي الشريك التجاري الأول مع تركيا بحجم تبادل يناهز 35 مليار دولار. في المقابل، هي من أكثر الدول معارضة – تقليدياً – لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي لأسباب تتنوع بين الاقتصادي والثقافي/الديني والسياسي فضلاً عن التخوف من نفوذها في بعض مؤسسات الاتحاد سيما البرلمان باعتبارها الثانية على مستوى أوروبا بعد ألمانيا من حيث عدد السكان.
الاستثناء الوحيد لهذا المسار كان ملف اللاجئين الذي أقض مضاجع أوروبا وخصوصاً ألمانيا وجعلها أكثر حرصاً على التعاون مع تركيا، فأبرمت معها – عبر الاتحاد الأوروبي – اتفاق الإعادة في 18 آذار/مارس 2016 بحيث تستقبل تركيا ما تعيده لها دول الاتحاد من مهاجرين “غير شرعيين” مقابل استقبالهم منها مهاجرين مسجلين على الكشوف الأوروبية، مقروناً بتسريع ملف عضوية تركيا من خلال فتح فصل جديد في التفاوض وتحرير تأشيرة شينغن أمام المواطنين الأتراك.
لم يطبق ذلك الاتفاق كما يجب في جزئية تبادل اللاجئين كما أن امتناع الاتحاد الأوروبي عن تحرير التأشيرة متذرعاً بعدم إيفاء تركيا بالشروط المطلوبة منها (سيما تعديل قانون الإرهاب) أعاد العلاقات سيرتها الأولى. ومما فاقم من التوتر بين أنقرة وبرلين أن البرلمان الألماني صادق في 2 حزيران/يونيو 2016 على قانون رمزي يعتبر أحداث عام 1915 “إبادة جماعية” بحق الأرمن على يد الدولة العثمانية.
المحاولة الانقلابية في تموز/يوليو الفائت وموقف الاتحاد الأوروبي منه ومن حالة الطوارئ التي أعلنت في تركيا ثم توقيف عدد من قيادات حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) كلها عوامل ساهمت في تعميق الهوة بين تركيا وشركائها الأوروبيين. أكثر من ذلك فقد استقبلت ألمانيا الصحافي التركي البارز جان دوندار الذي يحاكم بتهمة تسريب معلومات أمنية حساسة والتواصل مع الكيان الموازي واحتفت به على مستوى الرئاسة، ثم أعلنت مؤخراً عن استعدادها لقبول طلبات لجوء سياسي قدمها عشرات الضباط الأتراك العاملين سابقاً في الناتو، والذين تعتقد أنقرة أن لهم صلات بالكيان الموازي والانقلاب الفاشل.
الجديد أن ألمانيا ألغت لقاءً جماهيرياً كان يفترض أن يشارك به وزير العدل التركي بكير بوزداغ البارحة. فقد ألغت بلدية غاغيناو التابعة لولاية بادن – وورتمبيرغ فعالية دعا إليها “اتحاد الديمقراطيين الأتراك الأوروبيين” (UEDT) بعد موافقتها سابقاً عليه بدعوى “عدم وجود مرآب سيارات يكفي للحضور وقلة عدد مداخل المكان”، كما ألغت مدينة أخرى فعالية مشابهة كان يفترض أن يشارك بها وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي.
يبدو القرار سياسياً بامتياز، سيما أن حزب اليسار المعارض كان قد طالب بإلغاء كلمة بوزداغ، وأن الفعالية أتت بعد أيام من توقيف السلطات التركية للصحافي التركي دنيز يوجال ممثل صحيفة “داي ويلت” الألمانية بتهمة الترويج لحزب العمال الكردستاني المصنف على قوائم الإرهاب.
اعتبر الوزير التركي أن “عدم تحمل ألمانيا” لتجمع شعبي تركي على أراضيها في إطار ديمقراطي يشارك فيه مسؤولون رسميون أتراك “أمر غير مقبول”، وقال وزير شؤون الاتحاد الأوروبي عمر تشيليك إن ألمانيا “تبني مرة أخرى جدار برلين أيديولوجياً”، فيما عبر الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالين عن “قلقه على مستقبل الاتحاد الأوروبي” في ضوء هذه التطورات.
الرد التركي لم يتكف بالتصريحات، فألغى بوزداغ لقاءً كان يفترض أن يجمعه بنظيره الألماني، كما استدعت الخارجية التركية السفير الألماني مارتن إيردمان وأبلغته احتجاجها على الإلغاء وعلى “ازدواجية المعايير” الألمانية التي تسمح بفعاليات لناشطين أكراد ويساريين تستضاف في بعضها (عبر الفيديو) قيادات من حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً على لوائح الاتحاد الأوروبي وألمانيا، فضلاً عن استقبال الضباط المتهمين بالانضمام للكيان الموازي وغيرهم.
بيد أن القرار الألماني قد لا يكون مجرد قرار احتجاجي على توقيف ممثل الصحيفة الألمانية أو حتى على حالة الحريات في تركيا بعد الانقلاب إذا ما نظر له من زاوية الاستفتاء الدستوري في 16 نيسان/أبريل المقبل. فمشاركة الوزيرين تأتي ضمن الحملة الانتخابية التي تستهدف تحفيز المغتربين الأتراك لقبول التعديل الدستوري، سيما وأن ألمانيا هي الدولة الأكثر عدداً من حيث المغتربين الأتراك في العالم، ويقدر عددهم فيها بأكثر من ثلاثة ملايين وفق أقل التقديرات.
تقليدياً، تذهب معظم أصوات الأتراك في الخارج للعدالة والتنمية في مختلف المحطات الانتخابية من رئاسية إلى برلمانية إلى محلية، وتؤثر بشكل مباشر في عدد قليل فقط من الدوائر الانتخابية بسبب قانون الانتخاب وطريقة توزيع أصوات الخارج على المحافظات التركية. بيد أن التقارب بين نسبة المؤيدين والمعارضين للتعديل الدستوري اليوم يعطي ثقلاً أكبر وتأثيراً أوسع لأصوات الخارج، وهو ما دعا القادة الأتراك للاهتمام أكثر بمخاطبة مواطنيهم في الخارج. رفضت النمسا قبل أيام مشاركة الرئيس التركي في فعالية هناك عبر “فيديو كونفيرانس” واليوم تلغي ألمانيا فعاليتين كان سيشارك فيهما وزيران تركيان بذرائع غريبة.
لعل هذا القرار، إذن، يشير إلى هواجس ألمانية – أوروبية حول الأوضاع السياسية في تركيا ورغبة محتملة بالتأثير على نتيجة الاستفتاء الذي سيحول النظام السياسي فيها إلى رئاسي سيكون أقوى مرشحيه الرئيس الحالي اردوغان غير المحبوب في أوروبا.
وعليه، فإن حالة التأزم والتوتر مرشحة للاستمرار في المدى المنظور، على الأقل حتى ظهور نتيجة الاستفتاء واتضاح المسار التركي المستقبلي، فإما أن يفكك الطرفان بعض الألغام في العلاقة البينية وإما أن تتعمق الأزمة أكثر وهو السيناريو الأوفر حظاً من سابقه وفق المعطيات الحالية.