تطلعات تركية للعهد الأمريكي الجديد

فاجأ انتخاب دونالد ترامب لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية بلاد العم سام والعالم أجمع، ليس فقط لاستبعاد استطلاعات الرأي ذلك ولكن لما لرئيس أكبر دولة في العالم من تأثير على مختلف الأزمات والقضايا الدولية، وفي مقدمتها أزمات المنطقة مثل فلسطين وسوريا والعراق، ولذا كان الاهتمام الكبير بالحدث في هذه الدول، وفي القلب منها تركيا.

تربط تركيا بالولايات المتحدة الأمريكية “شراكة استراتيجية” منذ 1995 وتعتبر من حلفائها الأبرز في الشرق الأوسط، وكان انتخاب باراك أوباما فرصة لتحسين العلاقات الثنائية، حيث اختار البرلمان التركي منبراً لمخاطبة العالمين العربي والإسلامي في 2009. قدمت الولايات المتحدة تركيا كنموذج للعالم الإسلامي يجمع بين الديمقراطية والإسلام، واعتبر أوباما اردوغان شريكاً موثوقاً لبلاده في المنطقة.

 

حياد مشوب بالحذر

بيد أن الفترة الرئاسية الثانية لأوباما لم تحمل الكثير من الإيجابية بخصوص العلاقات مع أنقرة، بل شابها الكثير من التوتر لأسباب تبدأ من خلاف وجهات النظر في الأزمة السورية وتمر بالدعم الأمريكي للفصائل الكردية السورية ولا تنتهي بالموقف من الانقلاب والمماطلة في تسليم فتح الله كولن.

في لقاء صحافي أجري معه خلال زيارته للولايات المتحدة للمشاركة في الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 24 أيلول/سبتمبر الفائت، سئل الرئيس التركي عن الشخصية التي يفضلها للبيت الأبيض، فأجاب بأن القرار للشعب الأمريكي، وأنه “سيعمل مع من سيختاره الأمريكيون لإدامة التعاون والشراكة الاستراتيجية”.

لكن صحيفة المونيتور الإنكليزية تناولت في تقرير لها مؤخراً مقالات رأي وتقارير في وسائل الإعلام التركية المقربة من الحكومة رأتها تعبر عن رغبة أنقرة بفوز ترامب. في الحقيقة، فإن الحياد المعلن لا ينفي تخوفاً ساد تركيا من انتخاب هيلاري كلينتون، لأسباب ثلاثة رئيسة، هي:

أولاً، خشيت أنقرة أن تكون سياسات كلينتون امتداداً لفترة أوباما الثانية التي توترت فيها العلاقات بين أنقرة وواشنطن، رغم خلافها معه في بعض تفاصيل السياسة الخارجية.

ثانياً، صدرت عن كلينتون تصريحات كثيرة خلال حملتها الانتخابية حول الأزمة السورية ومواجهة تنظيم الدولة – داعش ومعركة تحرير الرقة، تضمنت مدحاً للفصائل الكردية المسلحة في سوريا باعتبارها من “أصدقاء واشنطن” الموثوقين، متجنبة ذكر تركيا.

ثالثاً، ثمة انطباع سائد في تركيا، مدعوم ببعض التسريبات الإعلامية، بأن جماعة كولن في الولايات المتحدة (الكيان الموازي) يتبرعون بسخاء لحملة كلينتون رغبة في فوزها وطمعاً في استمرار “الحماية” الأمريكية والمماطلة في تسليم تركيا زعيمهم فتح الله كولن المتهم الأول في المحاولة الانقلابية.

 

استبشار بترامب

كان اردوغان من أوائل الرؤساء والسياسيين الذين هاتفوا ترامب مهنئين بفوزه ومتمنين تعاوناً أوثق مع الإدارة الأمريكية الجديدة في عهده، بيد أن الأمر أعقد من مجرد تهنئة بروتوكولية.

تاريخياً، تظهر أنقرة ارتياحاً أكثر للتعامل مع الجمهورييين باعتبارهم أقل تركيزاً على مفردات الحريات والديمقراطية من الديمقراطيين، وأكثر اهتماماً بالأمن والاستقرار. كما أن أنقرة علقت آمالاً على فكرة التغيير في الإدارة الأمريكية علها تأتي بسياسات مختلفة عما انتهجه أوباما. أكثر من ذلك، أسعد موقف دونالد ترامب من المحاولة الانقلابية الفاشلة القيادة التركية، إذ عبر عن تقديره للشعب التركي ودور الرئيس اردوغان في صدها، سيما إذا ما قورن بالموقف الأمريكي الرسمي الذي تراوح بين السلبية والتواطؤ من وجهة نظر أنقرة.

لكن الأهم هو ما تضمنته الحملة الانتخابية لترامب من تصريحات له ولبعض مساعديه حول تركيا وقضايا المنطقة ذات الاهتمام المشترك مما قد ينبئ بمتغيرات محتملة تحمل الجديد (الإيجابي) لأنقرة.

“حليفتنا تركيا في أزمة وتحتاج دعمنا” هو عنوان مقال كتبه أحد كبار مساعدي ترامب، مدير وكالة الاستخبارات الدفاعية في الفترة 2012 2014، الفريق المتقاعد مايك فلين يوم الانتخابات الأمريكية. كما ترى أنقرة في تصريحات اثنين من كبار مساعدي ترامب ما يمكن اعتباره تأييداً لفكرة المنطقة الآمنة التي تدعو لها، هما نائب الرئيس المنتخب وحاكم ولاية إنديانا مايك بنس ورئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وأحد المرشحين لوزارة الخارجية بوب كوركر، فضلاً عن تصريحات ترامب نفسه الداعية إلى التعاون أكثر مع تركيا في سوريا.

في 27 تموز/يوليو الفائت، كتب بيتر نافارو أحد مستشاري ترامب السياسيين مقالاً انتقد فيه تبرعات جماعة كولن لحملة هيلاري الانتخابية، كما شبه مايك فلين فتح الله كولن بالخميني واعتبر أن شبكته حول العالم أقرب للمنظمة الإرهابية، ثم أيد السردية التركية بأن” كولن بالنسبة لأنقرة هو بمثابة بن لادن بالنسبة لواشنطن”، ولذلك فقد نقلت عنه أوساط تركية تقديره بأن ترامب يمكن أن “يسرّع” عملية إعادة كولن لتركيا رغم أنها ستبقى قضية قانونية قرارها النهائي بيد القضاء.

موقف ترامب الرافض للوجود الأمريكي العسكري في الشرق الأوسط يجعله أكثر اعتماداً على الحلفاء ومنهم تركيا، كما أن عدم رضاه عن الاتفاق النووي مع إيران قد يعيد بعض التوازن في المنطقة من وجهة النظر التركية، فضلاً عن أن سياساته المحافظة والداعية للانكفاء والاهتمام بالداخل قد تحمل أخباراً سارة للأخيرة، إذ ستغدو واشنطن أقل ميلاً للضغط عليها في قضايا الحريات والإعلام والحقوق.

أخيراً، في ظل توتر علاقات تركيا مع الاتحاد الأوروبي ووصول الأمور إلى حد التهديد بقطع العلاقات وتجميد ملف عضوية تركيا فيه، تؤمل تركيا بإمكانية تحسين العلاقات مع واشنطن بما يوازن الاتحاد الأوروبي و/أو يدعمها في الخلاف معه. فضلاً عن استفادة تركيا المفترضة من نيته تجميد مفاوضات بلاده مع الاتحاد الأوروبي حول اتفاقية الشراكة الأطلسية للتجارة والاستثمار (TTIP) التي كان يفترض أن تخفض الاستثمار في تركيا وتفقدها جزءاً من السوقين الأوروبية والأمريكية على حد سواء وفق اقتصاديين أتراك.

 

 

الأفعال أم الأقوال؟ 

كل هذه المواقف والتصريحات دفعت ببعض المواقف التركية لأن تكون أقرب للفرحة بفوز ترامب والشماتة بهزيمة كلينتون، كوزير العدل بكير بوزداغ الذي قال إن “الشعب الأمريكي رفض وأفشل محاولات توجيه إرادته وتصويته”.

بيد أن أنقرة تعرف أكثر من غيرها أن المراهنة على ترامب واستقرار مواقفه وانضباطها ضرب من المقامرة غير مضمونة العواقب. فهو شخص قفز من عالم الأعمال مباشرة إلى رئاسة الولايات المتحدة دون أي خلفية سياسية أو اكاديمية أو خبرة حزبية أو بيروقراطية. مما يعني أن الكثير من تصريحاته ومواقفه كانت نابعة من حس شعبوي يداعب عواطف الناخبين أو لمجرد مناكفة منافسته والنيل منها دون خلفية علمية أو واقعية، ولذا فاحتمالية “انضباط” هذه الرؤى والمواقف والتصريحات بعقال المؤسسات المختلفة أو رؤية الحزب الجمهوري مرتفعة جداً، نظراً للصعوبة البالغة لنقض عرى سياسة أوباما الخارجية التي بناها على مدى ثماني سنوات في وقت قصير.

في القضية السورية، الأهم بالنسبة لأنقرة، ورغم مواقفه المؤيدة للتعاون مع الأخيرة، لم يخف الرئيس الأمريكي المنتخب “إعجابه” الشديد بالفصائل الكردية مبدياً رغبته في جمع جهودهم مع جهود أنقرة لمواجهة داعش، وهو ما يبدو اليوم خطاً أحمر تركياً. أكثر من ذلك، لا يغيب عن بال صانع القرار التركي رغبة ترامب في “التعاون مع روسيا في سوريا ضد داعش” ورفضه تسليح المعارضة أو إسقاط الأسد لأن البديل (فصائل المعارضة) “قد يكون أسوأ منه”.

من جهة أخرى، ينبغي على تركيا أن تكون حذرة في التقارب مع رئيس بنى حملته الانتحابية على مقولات عنصرية سيما ضد المسلمين، وهي الدولة التي تقدم نفسها كرائدة في العالم الإسلامي ومدافعة عن حقوقه وشعوبه المظلومة. فإصراره – غير المتوقع – على هذه السياسات أو التصريحات العنصرية سيضع أنقرة أمام حتمية التحفظ و/أو الرد وهو ما قد يستجلب مواقف غير متوقعة أو متوازنة منه، مما قد يهدد العلاقات التركية – الأمريكية أكثر من اليوم.

في المحصلة، يبدو رضى أنقرة بنتائج الانتخابات الأمريكية رغبة في التغيير أكثر منه ثقة في ترامب على اعتبار أن العلاقات في عهد أوباما قد وصلت فعلاً إلى أسوأ درجاتها. ويمكن القول إن التغير في العلاقات التركية – الأمريكية شبه أكيد في العهد الأمريكي الجديد، لكن سياسات الرئيس الجديد هي ما سيحدد وجهة هذه العلاقات، نحو الدفء والتعاون أم القطيعة الكاملة ربما.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

ماذا في جعبة ترامب لسوريا؟

المقالة التالية

عن المواجهة مع إيران

المنشورات ذات الصلة