تطبيقات معاصرة لنظرية تأثير الفراشة

في ظل الأوضاع المعقدة التي تمر بها المنطقة وشعوبها وقواها الحية، تلك الأوضاع التي تتميز بقلة العدد وضيق الإمكانات وضعف الموارد وكثرة الأعباء والمشاغل والتحديات، تبرز الحاجة لصياغة الأولويات والعمل وفقها، وضرورة ترشيد الوقت والعمل، بحيث يقوم كل فرد/مجموعة/جهة بالأعمال الأكثر تأثيراً في أقل وقت ممكن وبجهد الحد الأدنى، وهو ما يحيلنا للحديث حول نظرية “تأثير الفراشة” ومحاولة الاستفادة منها.

و”تأثير الفراشة” مصطلح فيزيائي يُلجأ إليه في كثير من الأحيان لوصف بعض الظواهر بشكل فلسفي، كما يستعمل مجازاً في النصوص الأدبية ووصف الظواهر الاجتماعية. فالنظرية التي ابتكرها إدوارد لورينتز عام 1963 تتحدث عن الفروق “الصغيرة” في بدايات أي عمل أو نظام ديناميكي التي قد ينتج عنها على المدى الطويل فروقات “كبيرة” في المخرجات، لأسباب عدة. وقد أطلق على النظرية اسم “تأثير الفراشة” بسبب المثال الشهير الذي قدم نموجاً لها وهو أن خفقة جناح فراشة في بلد ما قد تتسبب – لاحقاً وبعد عدة تطورات – بأعاصير وفيضانات في بلد آخر يبعد آلاف الكيلومترات عن مكان الفراشة الأول.

هذه النظرية الفزيائية، والتي تقول أن عملاً بسيطاً في البدايات قد يعود بنتائج هائلة الإفادة في الخواتيم، قد استعمل فعلاً ولمرات عديدة في التاريخ خصوصاً في الظواهر الاجتماعية، حتى ولو لم تكن النظرية قد تبلورت أو اتخذت اسماً واصطلاحاً بعد.

خذ مثلاً اعتناق رجل واحد (هو الامبراطور قسطنطين الأول) للمسيحية، والذي أدى للاعتراف بها كأحد أديان الامبراطورية وانتشارها الكبير بعد أن كانت محظورة ومجرّمة. وخذ مثلاً اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بدعوة “كبراء” قريش وساداتها لعلمه بتأثيرهم على العامة، ولاحظ احتفاء السياسيين بزعماء العشائر وشيوخ الطرق الصوفية لما لهم من تأثير كبير على جموع أتباعهم وأنصارهم. هنا تبرز فكرة أن التأثير في شخص “واحد” قد يؤدي إلى التأثير في المئات أو الآلاف وربما أحياناً الملايين، وهذا هو جوهر تطبيق نظرية تأثير الفراشة.

حسناً، فكيف يمكننا أن نستثمر هذا المعنى في واقعنا العصري، بكل ما فيه من تحديات وتضييقات وقلة عدد وإمكانات؟ أعتقد أن بعض الأمثلة – على سبيل الإشارة لا الإحاطة – قد تكون مفيدة في هذا السياق:

مثلاً، إقناع رئيس الشؤون الدينية في بلد مثل تركيا بتضمين خطبة الجمعة فكرة ما، كالحديث عن وضع المسجد الأقصى الحالي في ذكرى الإسراء والمعراج، أو سرد المسوغات الدينية (وليس فقط السياسية) لاستضافة اللاجئين السوريين، يعني أن الفكرة ستصل لملايين الأتراك بجهد بسيط جداً.

مثلاً، تنظيم ندوة أو لقاء توضيحي لقسم الشباب في أحد الأحزاب الكبيرة – الحزب الحاكم مثلاً – حول قضية من القضايا، والإعداد الجيد لها للوصول إلى درجة من الإقناع والتعبئة، سيعني أن هناك عدداً – قل أو كثر – من قيادات الحزب المستقبلية قد تتبنى فكرتك يوماً ما.

مثلاً، التواصل مع فنان أو رياضي معروف بتعاطفه مع القضايا الإنسانية أو بروحه المبادِرة الجريئة، وإعطائه علماً أو إشارة أو رمزاً ما ليرفعه في إحدى الفعاليات/المسابقات، يعني أن الأمر سيصل أيضاً إلى الملايين في لحظتها، وبشكل تلقائي انسيابي ومحبب للنفوس.

مثلاً، عقد ندوة سياسية متميزة لطلاب وأستاذة العلوم السياسية والعلاقات الدولية في إحدى الجامعات الكبيرة، بكل ما يحتاجه ذلك من متحدثين متمكنين ووسائل إقناع سياسية واقتصادية ومنطقية واستراتيجية وثقافية وإنسانية، سيعني أن عدداً – قل أم كثر – من سياسيي وقيادات الغد سيكون أقرب لفهم قضيتك أو فكرتك.

مثلاً، إعداد مادة فيلمية من دقائق معدودة، معدة بشكل احترافي مبهر وبلغة إنسانية رائقة وبمنطق يتوافق مع ثقافة وفهم البلد المضيف (تركيا أو ماليزيا أو ألمانيا أو الولايات المتحدة)، وإيصاله لإحدى وسائل الإعلام واسعة الانتشار ومنها إلى وسائل التواصل الاجتماعي يعني أن الفكرة ستصل – بهذا الوضوح والإقناع والرقي – إلى ملايين البشر.

بالتأكيد، لستُ أزعم أنني بهذه السطور البسيطة قد أحطت بالفكرة والأمثلة بشكل متكامل، لكنني أحسب أن توضيح الفكرة وإعطاء بعض الأمثلة البسيطة سيفتح المجال أمام كل فرد فينا ليتفتق ذهنه عن عشرات الأمثلة الشبيهة أو حتى المختلفة، فشبابنا لا ينقصه الإبداع ولا الأفكار، بل تنقصه في معظم الأحيان الإمكانات. وميزة هذه النظرية وتطبيقاتها أنها تتيح إمكانية – وليس بالضرورة حتمية – حصد النتائج الكبيرة ببدايات وإمكانات متواضعة جداً، إنْ حَسُنَ الاستثمار. اللهم إلا أنها لا تجيب على أسئلة اللحظة الراهنة، بل تراهن على المستقبل البعيد، وهو ما نحتاج أن نستثمر فيه، فالمعركة اليوم ليست معركة رئاسة أو انتخابات أو حكومات، بل معركة مستقبل المنطقة/الأمة وكينونتها ووجودها، بهذا الشمول وبهذه الأهمية.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

أما شهداؤنا وأسرانا فلا سلطان لكم عليهم

المقالة التالية

العدالة والتنمية وأتاتورك والجمهورية الثانية

المنشورات ذات الصلة