موجة من الغضب العارم والتعليقات الساخرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي سببتها تصريحات رئيس السلطة الوطنية المحدودة (هذا هو اسمها ووصفها في اتفاقية أوسلو) محمود عباس للتلفزيون “الاسرائيلي”. فعباس، المفاخر دائماً بقمع المقاومة في الضفة الغربية والمعلن دوماً أنه لن يسمح بانتفاضة ثالثة، أضاف هذه المرة أن فلسطين بالنسبة له هي حدود 1967 “الآن وإلى الأبد”.
ورغم محاولات البعض تبرير التصريحات بأنها تكتيكات سياسية وليست تخلياً عن حق العودة واعترافاً ب”إسرائيل”، إلا أن الكلام كان واضحاً لا لبس فيه، ومتماشياً مع مواقف سابقة لعباس. لكنه كان هذه المرة أجرأ بكثير وَصِيغَ بلغة مباشرة، زاد في قسوتها ووقاحتها أنها صدرت في ذكرى وعد بلفور المشؤوم.
كانت مفارقة مغرقة في سخريتها أن تصدر هذه التصريحات في اليوم الذي يسترجع فيه الفلسطينيون ذكرى الوعد المشؤوم قبل 95 عاماً، وعد من لا يملك لمن لا يستحق. سخرية لم يضاهيها إلا “صفعة” ليبرمان لعباس حين قال أنه لا يفيدهم (الحكومة الصهيونية) شيئاً بتنازلاته، بل يجب أن يشكرهم لأنه لولاهم لما كانت له سلطة في الضفة الغربية. وبينما تسعى بعض المؤسسات الفلسطينية والدولية (مركز العودة – لندن مثلاً) لمطالبة بريطانيا بالاعتذار عن الوعد والسياسات التي أدت إلى قيام دولة “إسرائيل”، قدَّم عباس للصهاينة تنازلاً مجانياً عن %78 بالمئة من فلسطين إضافة لحق عودة اللاجئين.
منذ أن فُرِضَ على الراحل عرفات فرضاً، بقي عباس ملتزماً بخط سياسي واضح عنوانه العريض “لا للمقاومة – الحياة مفاوضات”، لم يحد عنه يوماً رغم سنوات المفاوضات العبثية العقيمة التي تخطت العشرين. الانتخابات البرلمانية التي أجريت عام 2006 في أراضي السلطة، وما تلاها من “حسم عسكري” لحماس في قطاع غزة، والانقسام الذي تعمَّقَ بعدها، كل ذلك نزل على عباس كهدية من السماء. استغل محمود عباس المراكز والألقاب الكثيرة التي يتمتع بها (رئيس السلطة وحركة فتح ومنظمة التحرير ودولة فلسطين وغيرها) لينفرد بالقرار الفلسطيني ويعبث به دون أي حسيب أو رقيب مستغلاً عنوان الانقسام وتبعاته.
التعليقات الكثيرة والاعتراضات المتزايدة في الشارع الفلسطيني وعلى مواقع التواصل الاجتماعي تعبر عن إجماع فلسطيني مصطف خلف أرض فلسطين التاريخية وحق عودة اللاجئين. لكنه في المحصلة غير مؤثر للأسف في القرار السياسي والقضية الوطنية.
الدور الأهم اليوم مناط بطرفين: قوى اليسار الفلسطيني المنضوية تحت منظمة التحرير الفلسطينية بصيغتها الحالية، وحركة حماس المستمرة في عملية المصالحة الوطنية مع حركة فتح في ظل قيادتها الحالية. إن الطرفين المذكورين يعطيان محمود عباس – من حيث يشعران أو لا يشعران – شرعية لا يستحقها بل يلهث وراءها، هي آخر ما بقي له ليتعمد عليه في الاستمرار بسياساته التفريطية.
إن واجب الوقت الراهن يكمن في نزع الشرعية عن محمود عباس والسياسات التي ينتهجها، عبر انسحاب قوى اليسار من منظمة التحرير بشكلها وأدائها الحاليين (أو تجميد العضوية على أقل تقدير)، وتعليق حركة حماس عملية المصالحة لحين اتخاذ حركة فتح موقفاً واضحاً وصريحاً إزاء ما صدر من تصريحات واتخِذَ من مواقف. فالتصريحات الحالية أجرأ وأخطر وأشد وطأة من فضيحة السلطة إبّان عرض تقرير جولدستون، وتستحق موقفاً مشابهاً إن لم يكن أقوى.
يجب على القوى والفصائل الفلسطينية المختلفة (وعلى رأسها حركة فتح) أن تتخذ موقفاً موحداً يدين ويستنكر ويجرّم تصريحات عباس، تمهيداً لمحاسبته ومعاقبته عليها. موقف موحد وحاسم يتجاوز محاولات عباس إلباس الانتقادات ثوب الانقسام والحزبية والتنافس مع حماس، حتى لا ينجو بفعلته وتصريحاته. إنه وقت اتخاذ المواقف القوية الواضحة الحاسمة الصعبة، القرارات الوطنية بامتياز.