تصريحات بايدن: لماذا تراجع الدعم الدولي للاحتلال؟
الجزيرة نت، 14 كانون الأول/ديسمبر 2023
تشكل تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي انتقد فيها حكومة نتنياهو وأشار لضرورة تعديل تركيبتها لتكون مناسبة لإبرام حل سياسي، التعبير الأكثر وضوحاً عن الشرخ الحاصل مؤخراً بين دولة الاحتلال والدولة الأكثر دعماً لها وهي الولايات المتحدة الأمريكية.
الموقف الأمريكي
منذ اللحظة الأولى لعملية طوفان الأقصى التي أطلقتها كتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس ضد قوة غزة المحاصرة للقطاع، أظهرت الولايات المتحدة الأمريكية دعماً غير محدود وغير مسبوق وغير مشروط لدولة الاحتلال، وانخرطت في الحرب بشكل مباشر وأشكال غير مباشرة.
بل قد لا يكون من قبيل المبالغة القول إنها أدارت الحرب مع الاحتلال عسكرياً وسياسياً؛ عسكرياً من خلال حضورها للمنطقة بحاملات الطائرات، ودعم “إسرائيل” بكل أنواع الأسلحة، وإرسالها قوة دلتا للمشاركة في جهود تحرير الأسرى، ومشاركة طائراتها في جهود الاستطلاع والتجسس فوق القطاع.
وسياسياً من خلال الدعم المقدم للاحتلال من جهة، وضبط مواقف الأطراف العربية والإقليمية من جهة أخرى عبر عدة زيارات لوزير الخارجية أنطوني بلينكن للمنطقة كان واضحاً أنها تضع سقوفاً لهذه الأطراف، فضلاً عن الهدف المعلن أمريكياً بضرورة “عدم توسع الحرب” بمعنى عدم انخراط أي أطراف إلى جانب المقاومة الفلسطينية وإتاحة المجال لنتنياهو للاستفراد بغزة.
على مستوى الموقف، تبنت الإدارة الأمريكية منذ البداية السردية “الإسرائيلية” بخصوص عملية السابع من أكتوبر، بما في ذلك أكاذيب قطع رؤوس الأطفال واغتصاب النساء وحرق الجثث وما إلى ذلك. كما بدت إدارة بايدن أحياناً أكثر تشدداً من نتنياهو نفسه، حيث طالب الرئيسُ الأمريكي الأخيرَ بإظهار ردة فعل حاسمة وقوية ضد حماس في زيارته لدولة الاحتلال في بدايات الحرب، كما كررت واشنطن مراراً رفضها لوقف إطلاق النار من باب أنه سيفيد حماس.
وأخيراً، فقد شكل الموقف الأمريكي درعاً حامياً للاحتلال وجرائمه في قطاع غزة عبر الفيتو الحاضر أكثر من مرة في مجلس الأمن، وآخرها ضد مشروع قرار دعا “لوقف فوري لإطلاق النار في غزة لدواع إنسانية” يوم الجمعة الثامن من كانون الأول/ديسمبر الجاري.
التصريحات
قال الرئيس الأمريكي إن “إسرائيل بدأت تفقد دعم المجتمع الدولي بقصفها العشوائي لغزة، الذي أودى بحياة آلاف المدنيين الفلسطينيين”، وأشار في معرض انتقاداته لنتنياهو إلى أن الأخير يحتاج لتغيير وتقوية حكومته التي عدَّها “الأكثر تشدداً في تاريخ إسرائيل” مؤكداً على أنها لا تريد حل الدولتين”، بهدف إيجاد حل طويل الأمد للصراع “الإسرائيلي” – الفلسطيني، معتبراً أن “سلامة الشعب اليهودي باتت على المحك حرفياً”.
ومما يزيد في أهمية تصريحات الرئيس الأمريكي أنها جاءت خلال فعالية لجمع التبرعات لحملته الانتخابية، في حفل استقبال في البيت الأبيض في عيد يهودي، وقد قوبلت تصريحاته بتصفيق ملحوظ من الحضور. كما أن التصريحات المذكورة أتت بعد اعتراف نتنياهو بوجود خلافات مع الإدارة الأمريكية على ما أسماه “اليوم التالي بعد حماس” مؤكداً أنه لن يكرر “خطأ أوسلو”، وكذلك بعد تصريحات لبلينكن نفى فيها أن يكون قتل المدنيين على يد الجيش “الإسرائيلي” متعمداً.
منذ بداية العدوان، اتفقت الولايات المتحدة مع حكومة الاحتلال على ضرورة مواجهة حماس في غزة وقدمت كل أنواع الدعم المعلن وغير المعلن لنتنياهو وشاركته الأهداف العسكرية والأمنية للحرب وغطت على مجازره بحق المدنيين، وإن اتضح منذ البداية أن هناك خلافاً بينهما بخصوص “اليوم التالي للحرب” أو ما يتعلق بإدارة قطاع غزة حيث أكد نتنياهو على ضرورة إعادة احتلالها بينما شددت واشنطن على أهمية حل الدولتين.
ومع طول أمد المعركة والزيادة المهولة في أعداد الشهداء والجرحى من المدنيين وتدمير البنية التحتية في قطاع غزة ضمن جرائم الحرب التي ارتكبها الاحتلال، تحدثت بعض التقارير عن مهلة منحتها واشنطن لنتنياهو لإنهاء الحرب بحلول بداية العام الجديد. وعليه، تكون تصريحات بايدن المشار لها التعبير الأكثر وضوحاً ومباشرة على الخلافات بين الجانبين، وعلى أن هذه الخلافات ليست هامشية ولا بسيطة.
دلالات وتداعيات
من اللافت أن تصريحات بايدن تزامنت مع بيان مشترك لكل من كندا وأستراليا ونيوزلندا أكد على دعم هذه الدول “للجهود الدولية العاجلة لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار في غزة”. وقال رؤساء وزراء الدول الثلاث إنهم يشعرون بالقلق إزاء تقلص المساحة الآمنة للمدنيين في غزة وإنه “لا يمكن أن تكون المعاناة المستمرة لجميع المدنيين الفلسطينيين هي ثمن هزيمة حماس”. كما أنها أتت بعد امتناع بريطانيا عن التصويت ضد مشروع القرار المشار له في مجلس الأمن، وموافقة باقي أعضاء مجلس الأمن بمن فيهم فرنسا.
يشير ذلك بوضوح إلى تصدع الدعم الدولي غير المسبوق وغير المشروط لنتنياهو، وإلى أن الخسائر البشرية الفادحة في القطاع باتت تشكل عبئاً كبيراً لم تعد الإدارة الأمريكية وبعض الدول الأخرى قادرة على أو راغبة في تحمله، ما أخرج الخلافات التي كانت تدار خلف الأبواب المغلقة إلى العلن وبهذه الصياغة التي تحمل معنى الضغط على الحكومة “الإسرائيلية”.
إن السبب المباشر لهذا الموقف هو طول أمد الحرب وتداعياتها الكارثية على المدنيين، بدون تحقيق أدنى نصر حقيقي أو نسبي أو متوهم أو حتى مزعوم. وقد أدت جرائم الحرب المتكررة من قبل الاحتلال لتهديد عدة أطراف بتقديم شكاوى لضمان محاكمة نتنياهو دولياً عليها، بما سيعني بالضرورة إحراجاً كبيراً للإدارة الأمريكية التي شكلت الغطاء السياسي والقانوني الأكبر له.
ومردُّ كل ذلك إلى إنجازات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة بقيادة كتائب القسام ومنع الاحتلال من تقديم أي صورة للنصر، وكذلك إلى الصمود الأسطوري لسكان غزة رغم المعاناة الإنسانية غير المسبوقة التي تعرضوا وما زالوا يتعرضون لها، وبالتالي إسقاط فكرة التهجير الجماعي لسيناء. ومن ضمن ذلك فشل محاولات الاحتلال المتكررة لتحرير الأسرى بالقوة وتسببها بمقتلهم بدل تحريرهم، وهو خلاف قائم بين واشنطن وتل أبيب منذ بداية الحرب إذ كان إخراج حَمَلة الجنسية الأمريكية على رأس أولويات بايدن.
وقد تسبب الدعم الكبير الذي قدمته الإدارة الأمريكية بضغوط متزايدة عليها، حيث تظهر استطلاعات الرأي تراجع شعبية بايدن الذي يستعد للانتخابات الرئاسية بعد أقل من عام، فضلاً عن الاعتراضات التي يواجهها داخل حزبه وفي إدارته وخصوصاً وزارة الخارجية والتي ظهر بعضها للعلن. كما أن الإدارة بدأت تتلمس نتائج شراكتها مع الاحتلال في نتائج العدوان وخصوصاً في الشق المدني، وزيادة مستوى الكراهية للولايات المتحدة في العالمين العربي والإسلامي، وما أسماه الرئيس الأمريكي ” مخاوف حقيقية في مختلف أنحاء العالم من أن تفقد أمريكا مركزها الأخلاقي بسبب دعمنا لإسرائيل”.
يقول كل ذلك بكل وضوح إن الدعم الدولي الممنوح للاحتلال في تقلص، وإن الوقت الممنوح لنتنياهو وحكومته لم يعد بلا سقف، وإن الدرع السياسي الذي كان يحمي الأخير من النقد تصدع بشكل ملموس.
لا يعني ذلك أن الحرب قد انتهت بالضرورة، ولكنه يشير بالتأكيد إلى أن أمدها لن يكون طويلاً وأنها في مراحلها الأخيرة، إذ لا يستطيع نتنياهو أن يستمر فيها طويلاً بهذا الشكل بدون إنجازات ميدانية ولا دعم دولي وخصوصاً أمريكي وفي ظل انتقادات داخلية. ولا شك في أن لهذه التصريحات ودلالاتها آثارها الإيجابية على غزة مقاومةً وشعباً، بأن الصمود قد بدأ يؤتي أكله في تصدع الجبهة المقابلة رغم التضحيات الجسيمة التي قدمت، وأن مزيداً من الصمود سيكون كفيلاً باستكمال النصر على حكومة الاحتلال والإعلان الرسمي عن فشلها في تحقيق أهدافها المعلنة وغير المعلنة من العدوان.
إن تصريحات بايدن إقرار ضمني بفشل العدوان “الإسرائيلي” على غزة في تحقيق ما توخاه نتنياهو منه، وعلى عدم القدرة على إخضاع المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس فضلاً عن إنهائها، وعلى أن الحل لن يكون وفق السقوف التي يطرحها نتنياهو من قبيل الاحتلال الكامل مجدداً.
كما أن كل ما سبق لا يعني أن الحرب ستنتهي بالكامل مع وفق إطلاق النار، حين يعلن، وإنما ستنتقل إلى مرحلة جديدة، حيث ستبدأ مرحلة التفاوض على الأسرى وإعادة الإعمار. وهي معركة جديدة لا تقل ضراوة عن المواجهة العسكرية المباشرة، حيث ستتعرض المقاومة لضغوط غير مسبوقة على هذا الصعيد ومن مختلف الأطراف لمحاولة تحديد مكاسبها ودفعها لتقديم تنازلات سياسية لا تتوافق مع أدائها الميداني المتميز في سبيل ضمان إعادة الإعمار، ما يؤكد على ضرورة استمرار المواقف والضغوط على كل الأطراف لضمان أفضل النتائج والحلول لغزة.