منذ تسلم العدالة والتنمية قيادة دفة الحكم في تركيا عام 2002، حكمت مقارباتِ الكثيرين في العالم العربي بخصوصها بعضُ الأفهام المغلوطة أو الأفكار النمطية المسبقة، منها ما هو متعلق بالأيديولوجيا والأهداف والسياسات، ومنها ما هو متعلق بالعلاقات مع العالم العربي.
ولأن قيادات الحزب الحاكم قد أتت من خلفية إسلامية، فقد أجريت المقارنات بين تركيا والدول العربية – خاصة مصر – في الاتجاهين، من حيث تقييم الأحداث في العالم العربي بنظارة التجربة التركية، أو مقاربة التطورات الأخيرة في تركيا من زاوية ما عايشته بعض الدول العربية.
مؤخراً، وبعد التقارب القطري – المصري بوساطة (أو ضغوط) سعودية، وحديث بعض المراقبين عن احتمال حدوث تقارب مماثل بين أنقرة والقاهرة، بغض النظر عن الأسس والشروط والمدى الزمني، ثارت موجة من الاعتراضات تمزج بين الصدمة والإنكار والتخوين بحق تركيا، تصدر عن تصورات البعض عن تركيا أكثر مما تصدر عن معرفة حقيقية بحقائق وتشابكات السياسة فيها.
وبعيداً عن تناول تفاصيل التقارب واحتمالاته وأسبابه والعوائق التي قد تمنعه، ربما يجدر بنا أن نعيد النظر في السياسة التركية وفق رؤية أعمق وأشمل، تشرح لنا لمَ كانت تركيا – وفق تحليل موضوعي – مرشحة لاتخاذ هذا الموقف، ولمَ يبدو من السذاجة السياسية توقع ثباتها على موقفها بكل تفاصيله حتى النهاية بدون أي تراجع.
يلوح في المقام الأول خلط كبير بين تركيا الدولة وتركيا النظام أو العدالة والتنمية. ذلك أن سياسات الأخير الانفتاحية والحاضنة لمختلف قضايا المنطقة، يجب أن لا تنسينا عقيدة الدولة التركية السياسية والعسكرية والأمنية، التي يصعب تغييرها خلال سنوات قليلة. فما تقدمه الحكومات من سياسات متجددة لا يعدو أحياناً كونه تعديلات على مستوى الشكل والأداء والتفاصيل، وليس الجوهر والدور والعناوين الكبيرة، أي أنها تدير مساحات المتغيرات لا الثوابت.
وهنا، يبدو من المفيد إعادة التذكير أن السياسة الخارجية التركية، خاصة نحو الربيع العربي، كانت دائماً مزيجاً من المبادئ والمصالح، كما يجب أن لا ننسى أن مهمة أي حكومة في العالم هي تحقيق مصالح شعبها؛ ولو اضطرها ذلك لتخطي بعض الاعتبارات الأخلاقية أو المبدئية، مع الإشارة إلى أن علاقات أنقرة المتشابكة والمتعددة سياسياً واقتصادياً، قد تصبح في لحظة ما عنصر ضغط عليها بقدر ما كانت قبل ذلك عامل قوة في يدها.
إذاً، لا يجب إغفال عضوية تركيا في حلف الناتو، أو شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، أو ملف عضويتها في الاتحاد الأوروبي الذي يتابع سياساتها الداخلية والخارجية ويحكم عليها من خلالها. وبالتالي فهذه الأطر الثلاثة هي التي تحكم سياساتها الخارجية وتحدد لها الأدوار التي يمكنها لعبها، ما يعني أن كل ما تستطيع القيادة التركية تقديمه لا يمكن أن يتخطى بحال من الأحوال خطوطها الحمراء.
أي أن تركيا جزء من النظام الدولي الحالي، بل دولة تسعى لتوفيق سياساتها معه، ولكن هذا لا يمنعها من اجتراح شيء من الاستقلالية النسبية في سياساتها من خلال لعبها في المنطقة الرمادية. بكلام آخر، هناك حدود للدعم التركي الذي لن يكون يوماً ما مسخّراً لخدمة معركة صفرية أو أيديولوجية حتى النهاية وبلا أي حسابات، ذلك الموقف الذي يمكن توقعه فقط من دولة تقع “خارج النظام” العالمي أو تعاديه، ما اصطلح في فترة ما على تسميتها بـ “الدولة المارقة”، تلك التي لن تكترث لإضافة ملف شائك آخر مثير لحساسية وغضب المجتمع الدولي على ملفاتها السابقة المتكدسة.
حين ننظر للأمر بهذا الشمول، ونتعمق في السياسة الخارجية التركية من حيث المسوغات والخلفية التاريخية والاستراتيجيات (القوة الناعمة والاحتواء)، والأدوار (الموازن الإقليمي والوسيط)، وتأثير الضغوط الداخلية والخارجية عليها، سوف نكون أبعد ما يكون عن الدهشة والصدمات، وربما سيكون من المفيد أن نذكر هنا المثال الرمزي للدعم السياسي في العلاقات الدولية، وهي تلك “القرْدة” الأم التي تحمل طفلها وتقف فوق صفيح ساخن، وتحتضنه لتحميه، حتى إذا ما وصلت الحرارة إلى درجة مميتة وضعته على الصفيح ووقفت فوقه لتحمي نفسها.