لا يختلف اثنان أن تركيا دخلت ما بعد الانتخابات المحلية الأخيرة في مرحلة جديدة ذات عناوين ومضامين بعيدة كلياً عن عناوين ومضامين المرحلة السابقة.
فالنتيجة التي حصل عليها العدالة والتنمية وفق النتائج غير الرسمية (تأخر إعلان النتائج الرسمية حتى الآن بسبب الطعون والشكاوى المقدمة من مختلف الأحزاب) أعلنته فائزاً صريحاً في هذه الجولة. فإذا ما وضعنا في الاعتبار أن ذلك الاستحقاق الانتخابي اعتبر من قبل الحكومة والمعارضة على السواء استفتاءً على حزب العدالة والتنمية ورئيسه، سنجد أننا أمام مشهد جديد في تركيا، تحديداً فيما خص فسيفسائها الحزبية الداخلية في المفترة القادمة.
الأرقام تقول الكثير
فوفق هذه النتائج غير الرسمية رفع الحزب الحاكم نسبة تصويته في عموم تركيا من %38 في آخر انتخابات محلية عام 2009 إلى أقل من %46 بقليل (بما يزيد عن مجموع حزبي المعارضة الأكبر: الشعب الجمهوري والحركة القومية)، وارتفع عدد بلديات المدن التي فاز بها من 45 إلى 49، كما أنه كان المنافس الوحيد لحزب السلام والديمقراطية في جنوب شرق تركيا وحصل على نسبة عالية وإن لم يفز في أي مدينة كبيرة، في ظل سيطرة الحزب الذي يرفع لواء نصرة القضية الكردية وغياب الأحزاب الأخرى.
هذه النتيجة العريضة هي التي دفعت رئيس الحزب ورئيس الوزراء اردوغان لأن يقول – في “خطبة الشرفة” التقليدية بعد كل استحقاق انتخابي – إن الشعب لقن المعارضة والتنظيم الموازي درساً بليغاً ووجه لهما “صفعة عثمانية”.
جماعة كولن والمأزق التاريخي
وقبل أحزاب المعارضة، كانت جماعة كولن (الخدمة) أكبر الخاسرين في تلك المعركة الديمقراطية، ذلك أنها كانت رأس الحربة في الهجوم على وتولت كبر الحملات الإعلامية وعمليات التنصت والتسريبات (وفق ادعاء الحكومة)، فكان أن عادت من الجولة بخسارة مركبة تكاد تصل إلى مستوى الانعطافة التاريخية في مسيرتها التي استمرت عبر أكثر من 40 عاماً.
فالجماعة التي خرجت من كل الانقلابات العسكرية السابقة سليمة واستمرت في عملها (إذ تعاملت مع بعضها وشاركت في البعض الآخر)، تبدو الآن أمام احتمال الانكفاء على الذات في ظل حكومة مدنية منتخبة، وانتقلت من الهجوم للدفاع، بل ومحاولة تبرئة النفس للبقاء. هذه المفارقة الموحية سببها أن الحركة قد خسرت – على الأقل – التالي:
- الهالة الأسطورية التي كانت تحاول إحاطة نفسها بها، بادعاء أنها من أنجح العدالة والتنمية وجلب له أصواته المرتفعة، وبالتالي فهي القادرة على إسقاطه.
- ادعاءات الكتلة التصويتية الكبيرة، إذ لم تنجح الجماعة في قلب المعادلة في أي مدينة كبيرة، وخاصة العاصمة أنقرة. بل ربما تكون الجماعة قد عجزت عن التأثير على أبنائها للتصويت ضد العدالة والتنمية وفق تعليماتها، وهذه إشارة أسوأ.
- ادعاء البعد عن السياسة، فقد اشتغلت بها في فترة الشهور الثلاثة المنصرمة أكثر من بعض الأحزاب.
- ادعاء الحياد والموضوعية، فقد اتضح انحياز وسائل إعلامها ضد العدالة والتنمية، حتى وصل الامر بوكالة جيهان للأنباء المحسوبة عليها إلى إظهار أرقام غير صحيحة في محاولة للإيحاء بالتزوير.
وفق كل هذه المعطيات، وفي ضوء تصميم الحكومة على اجتثاث أذرع الجماعة في المؤسسات المختلفة والتي يطلق عليها اسم “التنظيم الموازي” او الدولة الموازية، وفي ظل تراجع عدد من كبار كتابها عن هجومهم على الحزب الحاكم واعترافهم بفشل خطة الجماعة في إسقاط الحكومة، وبعد سفر عدد من المحسوبين عليها إلى خارج البلاد، تبدو الجماعة فعلاً في وضع لا تحسد عليه.
المعارضة تزداد ضعفاً
أحد أهم تجليات الانتخابات المحلية كان فشل المعارضة السياسية في استثمار ادعاءات الفساد التي لاحقت الحكومة، وتراجع الاقتصاد منذ أشهر، وحظر بعض مواقع التواصل الاجتماعي، لإلحاق الهزيمة بحزب الأغلبية، رغم رفع حزب الشعب الجمهوري لنسبة تصويته من%23 إلى ما يقارب %28. فقد فشل الحزب في كسب بلدية العاصمة رغم التحالف الثلاثي والمرشح القوي، وفشل فشلاً ذريعاً في اسطنبول، بل وخسر مدينة أنطاليا لصالح العدالة والتنمية، الذي نافسه في بعض معاقله التاريخية دون أن يستطيع هزيمته فيها.
في هذا الإطار، عجز أكبر أحزاب المعارضة عن تقديم برنامج انتخابي يقنع المواطن التركي، واكتفى بمهاجمة الحكومة واتهامها بالفساد ومحاولة التستر على الفاعلين لإنقاذهم من العقاب (رغم عدم صدور أي قرار قضائي، ورغم طلب الوزراء الأربعة بأنفسهم فتح تحقيق بشأنهم)، ثم أضاف لذلك حلفاً واضح المعالم وإن كان غير معلن مع جماعة كولن (أحد أعدائه التاريخيين) في كثير من المناطق، ومع بعض القوميين اليمينيين في بعضها الآخر. هذه المخاطرة التي تحمل مسؤوليتها زعيم الحزب كمال كليتشدار أوغلو في ظل معارضة تيارات واسعة في حزبه، جعلته موضع الانتقاد في مواجهة أصوات عالية تطالب بالمراجعة والمحاسبة الداخلية، مما يوحي بأن أقدامه ما عادت راسخة في رئاسة الحزب، في ظل الحديث عن هيئة عمومية طارئة محتملة قد تأتي بمصطفى صاريغول، الذي خسر بلدية اسطنبول، رئيساً جديداً للحزب وقائداً للمعارضة.
ولا تقف خسارة المعارضة عند هذا الحد، فقد ظهرت خلافاتها مرة أخرى للعيان بعد فترة تقارب تكتيكية اضطرارية، حين دعا كليتشدار أوغلو عقب إعلان النتائج غير الرسمية إلى توحد المعارضة خلف مرشح واحد يستطيع منافسة اردوغان في الانتخابات الرئاسية، فكان أن حصل على رفض واضح من حزب الحركة القومية، ثاني أقوى أحزاب المعارضة.
الطريق نحو قصر تشانقايا
أما اردوغان، أكبر الرابحين في الجولة الأخيرة، فقد بات أمر ترشحه لرئاسة الجمهورية في آب/أغسطس القادم شبه مؤكد، بعد النتائج التي اعتبرها تأييداً له ولسياسات حزبه، والتي توحي بإمكانية حسمه لانتخابات الرئاسة من الجولة الأولى، وقد ألمح اردوغان إلى ذلك في خطابه الأول بعد الفوز قائلاً: “ما دامت هذه الروح في هذا الجسد، فإنني سوف أخدم شعبي في أي مسؤولية يلقيها على عاتقي”.
يبقى فقط أن ينسق اردوغان مع الرئيس الحالي عبدالله غول، الذي لا يتوقع أن ينهي حياته السياسية الآن، ويطمح للعب دور آخر، يعتقد كثير من المراقبين أنه قد يكون رئاسة الحزب والحكومة، بعد “تبادل انتخابي” بينه وبين رئيس الوزراء الحالي وفق سيناريو بوتين – ميدفيديف، ومن المرجح أن الحزب قد دخل فعلاً في حسابات ومعادلات العملية وكيفية تنفيذها.
خريطة حزبية جديدة
هكذا، يبدو أن انتخابات محلية، لا تعدو كونها متعلقة بعملية خدماتية محدودة، قد ترسم مشهداً حزبياً جديداً لتركيا، تعجز فيه جماعة الخدمة/كولن عن التأثير، ويتجه فيه حزب المعارضة الأبرز إلى الضعف أو تغيير الرئيس أو حتى الانشقاق والتفتت في حال عدم التوافق، ويسير فيه العدالة والتنمية نحو شعبية أكبر وسط الطيف الكردي في رسالة تأييد واضحة لعملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، وانتعش فيه الاقتصاد مباشرة بعيد الانتخابات إثر تلاشي مخاوف الاضطرابات في البلاد.
هذه الخلاصة الانتخابية مفادها استمرار في الاستقرار السياسي، وانتعاشة في الاقتصاد، وهدوء في جنوب البلاد، وضعف للمعارضة، وقوة مستدامة للحزب الحاكم، وانتقادات أقل من الخارج، مما يدعم استمرار السياسات الداخلية والخارجية دون معارضة تذكر، وربما يصل الأمر لتغيير النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي أو شبه رئاسي على المدى المتوسط أو البعيد، مما يعني باختصار شديد أن كتاب العدالة والتنمية في حكم تركيا ما زال فيه العديد من الفصول والصفحات على ما يبدو.