تركيا وليبيا: خطوات عملية في تعزيز التعاون ومواجهة المطامع اليونانية
TRT عربي
أعلن وزيرا خارجية تركيا وليبيا مولود جاويش أوغلو ونجلاء المنقوش يوم الاثنين الفائت عن توقيع مذكرة تفاهم في مجال الموارد الهيدروكربونية بين البلدين. وقال جاويش أوغلو إن مذكرة التفاهم الموقعة مع الجانب الليبي في مجال النفظ والغاز تهدف للتعاون بين شركات البلدين في الاستكشاف والتنقيب وفق مبدأ الربح للجميع، وأنها “ستشمل التنقيب براً وبحراً”.
من جانبها، قالت المنقوش إن مذكرة التفاهم تصب في مصلحة البلدين و”تساهم في حل الأزمة العالمية المتعلقة بالطاقة والغاز”. كما ذكر المتحدث باسم حكومة الوحدة الوطنية محمد حمودة إن الاتفاقية تهدف إلى تطوير مشاريع استكشاف وإنتاج ونقل وتجارة النفط والغاز الطبيعي، وإنها تعزز التعاون بين الجانبين في عدة مجالات وتبادل الخبرات بينهما وتضمن المصالح المشتركة لهما.
في المقابل، وكما هو متوقع، اعترضت أطراف ليبية على مذكرة التفاهم لأسباب تتعلق بالخلافات الداخلية وحالة التنافس والصراع مؤخراً. فعَدَّ رئيس مجلس النواب الليبي عقيلة صالح المذكرة غير قانونية قائلاً إن حكومة عبد الحميد الدبيبة لا تملك تفويضاً بذلك، بينما قالت حكومة فتحي باش آغا المعينة من قبل البرلمان إنها “ستبدأ التشاور مع الشركاء الوطنيين والإقليميين والدوليين” للرد على خطوة حكومة الدبيبة.
بيد أن الموقف الأوضح كان لليونان التي تحركت لحشد المواقف ضد الاتفاق. فقالت وزارة الخارجية اليونانية إن لأثينا حقوقاً سيادية في المنطقة ستدافع عنها “بكل الوسائل القانونية” وبالمراعاة الكاملة للقانون الدولي للبحار. وفي ظل إشارات التنسيق مع اليونان، قالت مصر إن حكومة الوحدة الوطنية لا تملك صلاحية التوقيع على مذكرة التفاهم، بينما أكد الاتحاد الأوروبي على أنه لم يغير موقفه من اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين البلدين في 2019 التي رأى أنها “تنتهك الحقوق السيادية لدول ثالثة” بما يحيل على اليونان في المقام الأول، وإن كان أشار إلى انتظار الكشف عن تفاصيل المذكرة لإصدار موقف نهائي.
لم يكن الموقف اليوناني مستغرباً، فالخطوة التركية – الليبية جزء من رؤية متكاملة تهدف بالأساس لمواجهة مطامعها في شرق المتوسط حيث تريد الاستئثار بحصة الأسد من المناطق الاقتصادية الخالصة والجرف القارية وبالتالي الثروات وفي مقدمتها الغاز الطبيعي على حساب حقوق الدول الأخرى وخصوصاً تركيا وليبيا، فضلاً عن التنافس الجيوسياسي مع تركيا على وجه التحديد.
ذلك أن الخطوة التركية – الليبية تحمل عدة دلالات مهمة على رأسها:
أولاً، نقل اتفاقية ترسيم الحدود البحرية إلى الحيز العملي. فقد حملت الاتفاقية الموقعة في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 والمتعلقة بتحديد المناطق الاقتصادية الخالصة للبلدين أهمية رمزية كبيرة، إذ أنها أكدت وجود شركاء لتركيا في شرق المتوسط وعدم القدرة على عزلها من خلال منتدى غاز شرق المتوسط المؤسس في كانون الثاني/يناير من نفس العام بقيادة اليونان، وكذلك تأييد السردية التركية في طريقة ترسيم الحدود البحرية. فضلاً عن أنها كانت في مصلحة البلدين وليس تركيا فقط في مواجهة مطامع اليونان التي تطالب بما يزيد عن نصف مساحة شرق المتوسط بالاعتماد على الجزر الصغيرة والكتل الصخرية والتعامل معها بمثل التعامل مع الدول على البر/اليابسة.
فمذكرة التفاهم تتحدث عن التنقيب في البر والبحر كما أورد وزير الخارجية التركي، فضلاً عن التعاون في عدة مجالات تقنية، وهي تفتح الباب على إمكانية التنقيب والأنشطة السيزمية حالَ تحديد ليبيا مناطق الصلاحية البحرية الخاصة بها وتسجيلها في الأمم المتحدة والطلب من تركيا المسح والتنقيب.
ثانياً، تعميق العلاقات بين البلدين. فقد وقع الطرفان مذكرة تفاهم في المجال الأمني كذلك وليس فقط بخصوص قطاع الطاقة. كما صرح وزير الخارجية بسعي تركيا لتطوير علاقاتها مع ليبيا “في كافة المجالات”، وأشار لجهدها في “ضمان وجود جيش نظامي في ليبيا”، إضافة لعمل الجانبين من أجل استئناف الرحلات الجوية، والتجارة البينية بالعملات المحلية، وأكد على فتح القنصلية في بنغازي “عند توفر الظروف المناسبة”.
وبهذا المعنى، يمكن عدُّ الاتفاقات والمذكرات الموقعة بين الجانبين أرضيةً تمهيدية وإعداداً للاجتماع القادم لمجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى، مما سيساهم في فتح آفاق أرحب له من الاجتماعات السابقة التي كان بعضها ضعيف الإعداد كما بدا في حينه.
ثالثاً، ترسيخ الدور التركي. ويعني كل ما سبق زيادة الدور التركي في ليبيا، والذي ساهم في تحقيق التوازن ثم الاستقرار ثم الدفع نحو مسار سياسي وغلق الباب أمام المغامرات العسكرية، والآن يسعى للمساهمة في مساحات التنمية والدعم في مختلف المجالات على المدى البعيد وفي مقدمة ذلك مسار الانتخابات.
رابعاً، الاستدامة. وبالنظر لنوعية التفاهمات المبرمة وتنوع مجالاتها وكذلك طبيعتها بعيدة المدى، يتضح أن الدعم التركي أبعد مدى وأثراً وهدفاً من الحكومة الحالية وإنما يسعى لإدامة العلاقات وتطوير العلاقات مع ليبيا كدولة وشعب وليس فقط الحكومة الحالية. ومن هنا يمكن فهم تصريحات وزير الخارجية بأن تركيا “تنظر إلى ليبيا كوحدة متكاملة بشرقها وغربها وجنوبها” وأنها ستقف في وجه محاولات بث الصراعات بين الإخوة وزعزعة استقرار البلاد.
خامساً، دعم الدبيبة. ورغم ذلك فإن الخطوة التركية، وبالنظر لتوقيتها وسياقها، مساهمة غير مباشرة ولكن واضحة في دعم رئيس حكومة الوحدة الوطنية عبدالحميد الدبيبة، في تناغم مع الموقف التركي التقليدي وخصوصاً من التصعيد الأخير ومحاولات السيطرة على العاصمة، حيث كانت أنقرة دعت للحكمة والهدوء والاستمرار في مسار الانتخابات بما يعني رفض حل الخلافات بالأساليب العسكرية.
وفي المحصلة، فإن المذكرة الموقعّة بين تركيا وليبيا بخصوص الطاقة، مضافاً لها التفاهمات الأخرى ومسار العلاقات بين البلدين، يمكن فهمها من إحدى زواياها في إطار مواجهة المطالب اليونانية المبالغ بها في شرق المتوسط ونقل التعاون بين أنقرة وطرابلس الغرب بخصوص الطاقة لمساحة عملية ممكنة مستقبلاً، فضلاً عن تعميق الدور التركي في ليبيا، وهي سياقات تزيد أهميتها بالنظر لحالة التوتر مؤخراً بين أنقرة وأثينا.
لكن ذلك لا ينفي أيضاً الموقف التركي بخصوص تقاسم الثروات في شرق المتوسط ولا يغيره. فما زال موقف أنقرة الرسمي والمعلن، والذي كرره جاويش أوغلو مرة أخرى خلال زيارة ليبيا، هو الدعوة لمؤتمر دولي تشارك فيه جميع الأطراف المطلة على شرق المتوسط. ويعني هذا الرغبة في والسعي لحل الخلاف والتنافس في إطار من الحوار والتوافق بناء على أسس قانونية ومنطقية. وهي مبادرة تركية ما زالت تنتظر تفاعل اليونان معها، ودعم الأطراف المعنية الأخرى، فضلاً عن مساهمة منظمات مثل الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو بها، إن كانت فعلاً حريصة على الحقوق والمصالح وعلى تجنب الصدام بين الدول المعنية.