منذ عدة سنوات، تجنح تركيا نحو استقلالية نسبية في سياستها الخارجية. لم تخرج “قلعة الناتو المتقدمة” تماماً عن الطوق الأمريكي – الغربي، لكنها تسير قدماً نحو امتلاك عناصر القوة واستقلالية القرار، وهو ما وضعها أكثر من مرة في الفترة الأخيرة في مرمى نيران حلفائها قبل خصومها.
الصعود التركي السريع في المنطقة أسعد الكثيرين، لكنه أقلق كثراً آخرين، بدعوى الخوف من “العثمانية الجديدة” وتطلعات أنقرة نحو السيطرة على المنطقة، لكن السنوات اللاحقة أظهرت أن الأخيرة ليست راغبة و/أو قادرة على فعل ذلك. فسقفها المرتفع في كثير من القضايا وعلى رأسها سوريا ومصر بقي دون القدرة على إنقاذه على أرض الواقع.
جزء من أسباب هذا القصور هو افتقاد تركيا لأذرع سياسية أو استخباراتية أو إعلامية في الدول المذكورة وغيرها كما يمتلك غيرها (إيران مثلاً)، وهو موروث طويل الأمد منذ فترة الانكفاء التركي عن قضايا المنطقة وهمومها، تحاول تركيا فيه أن تزرع بعض البذور التي تحتاج للصبر والوقت الطويل لتثمر، إن سمحت لها رياح المنطقة والاستقطاب العاتية فيها أن تنمو وتزهر.
لكن السبب الآخر هو أن القوة التركية الصاعدة تحتاج لشراكات وأحلاف في المنطقة تؤازرها وتشاركها هذا العبء الثقيل، وتسمح لها بالمبادرة والمناورة. ولذلك – في ظني – كان الاندفاع التركي الباكر والجارف نحو الثورة المصرية منذ بداياتها سياسياً (كان الرئيس غل أول الرؤساء الزائرين للقاهرة بعد الثورة) واقتصادياً (مشاريع المناطق الصناعية والنقل البحري وغيرها) وفي مختلف القطاعات. وهذا أيضاً ما يفسر – جزئياً – الموقف التركي من الانقلاب في مصر، بل ربما الاستعداد الحالي لتطبيع العلاقات مع القاهرة.
تبدو أنقرة مدركة تماماً لهذه الحاجة للحليف أو الشريك، أو – في الحد الأدنى – لتخفيف حدة الاحتقان والاستقطاب في المنطقة، ولذلك دأبت في الفترة الماضية على التأكيد على أهمية العمل المشترك والتلاقي والحوار، وأرسلت عدة رسائل إيجابية في عدة اتجاهات، كان أهمها نحو السعودية ودول الخليج.
ويمكن فهم زيارة نائب رئيس الوزراء بولند أرينتش ثم وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى الخليج ضمن هذه الرؤية، كما يمكن تلمس الرسائل التركية الواضحة بضرورة المصالحة وترميم العلاقات بين طيات تصريحات الرجلين.
هنا، ترسل تركيا رسائل التعاون والتحالف بقدر وعيها بأهمية دورها الريادي في المنطقة وفق اعتبارات الروافع السياسية والاقتصادية والاستراتيجية التي تملكها دون غيرها. وفي هذا الإطار يمكن فهم رسائل اردوغان التي ألقاها على مسامع ممثلي 56 دولة من أعضاء منظمة التعاون الإسلامي في اسطنبول قبل أيام على هامش اجتماع اتحاد برلمانات الدول الأعضاء في المنظمة.
فإلى جانب الحديث المعتاد من الزعيم التركي حول قضايا المنطقة وعلى رأسها سوريا وفلسطين، لم يخف على المراقبين حديثه عن “العالم الإسلامي” و”الأمة المسلمة” حين تطرق لضرورة إصلاح الأمم المتحدة، والحاجة لنظام عالمي جديد، وحادثة صحيفة “شارلي إيبدو” وغيرها من الملفات، وربما كان الأكثر لفتاً للأنظار قوله ” هناك 56 دولة في منظمة التعاون الإسلامي، ورغم ذلك فكلمة المنظمة غير مسموعة في مجلس الأمن. لا أحد سيعطينا هذا الحق، بل نحن من نستطيع تحصيله بأنفسنا، إن أردنا”.
إن غياب التواصل والتعاون والتحالف بين دول المنطقة القوية وفي مقدمتها تركيا والسعودية ومصر ساهم إلى حد كبير في تغول القوى الإقليمية والدولية عليها، وقد رأى الجميع نتائج ذلك في التمدد الإيراني الأخير في اليمن، الذي لا يمكن توقع سعادة الرياض به، وهو التطور الذي ربما يكون سبباً في إعادة الأطراف المختلفة حساباتها إزاء عدد من القضايا الخلافية لتحقيق مصالح الجميع.
فهل تكون التطورات الأخيرة المتسارعة في كل من اليمن ومصر فرصة للنظام الجديد في السعودية لتلقف اليد التركية الممدودة نحوها للتعاون بما يساهم في إعادة التوازن للمنطقة؟