تركيا وخطوة أخرى نحو الديمقراطية

حملت “لجنة التوافق على الدستور” في مجلس الأمة التركي قبل أيام خبراً مفرحاً للأتراك، يعتبر خطوة متقدمة على صعيد ترسيخ عملية التحول الديمقراطي المدني في البلاد، وهو توافق الأحزاب المختلفة على تبعية رئاسة أركان الجيش لوزارة الدفاع الوطني في الدستور الجديد.

 

فبعد انهيار السلطنة العثمانية وتأسيس الجمهورية التركية الحديثة، عاشت تركيا عشرات السنين تجربة حكم الحزب الواحد بذريعة حماية الجمهورية الوليدة ومكتسباتها. ثم عبرت إلى مرحلة نظام تعدد الأحزاب بعد انتخابات عام 1950، غير أن النظام السياسي التركي بقي محكوماً بقيدين ثقيلين اعتبرا على مدى عقود حامِيَيْ النظام العلماني والإرث الأتاتوركي، هما المحكمة الدستورية والمؤسسة العسكرية.

 

ظلت المحكمة الدستورية سيفاً مُسْلطاً على رقاب الأحزاب والقيادات السياسية، لا سيما الإسلامية منها، مغلقة العديد من الأحزاب وفارضة حظراً على نشاط العشرات من السياسيين لأوهى الأسباب، ودائماً بذريعة مخالفة “الأسس” التي قامت عليها الجمهورية. وكانت آخر معاركها مع حزب العدالة والتنمية الحاكم حالياً حين نجى في الثلاثين من تموز/ يوليو عام 2008 من قرار الإغلاق بفارق صوت واحد، ثم تراجع دورها كثيراً مع الاستفتاء على التعديلات الدستورية في الثاني عشر من أيلول/ سبتمبر عام 2010 (الموافق لذكرى الانقلاب العسكري عام 1980) التي رفعت عدد أعضائها من 11 إلى 17، وصعّبت قرارات إغلاق الأحزاب السياسية وغيرت في تركيبة أعضاء المحكمة.

 

أما الجيش فقد كان طوال الوقت الحارس الأمين للمبادئ العلمانية الأتاتوركية، وقام بأربعة انقلابات: انقلاب عام 1960 العسكري الذي أفضى إلى إعدام رئيس الوزراء آنذاك عدنان مندريس، وانقلاب عام 1971 الأبيض (ضغط على الحكومة للاستقالة)، وانقلاب عام 1997 “ما بعد الحداثي” على حكومة نجم الدين أربكان، وانقلاب عام 1980 العسكري الذي شمل حل الاحزاب، واعتقال رؤسائها ومحاكتمهم وفرض دستور عسكري على البلاد. وبقيت قيادة القوات المسلحة التركية نداً قوياً لكل الحكومات التركية، مترأسة الذراع العسكري في مجلس الأمن القومي في مقابل ذراع مدني كان يشكل الأقلية. تبع ذلك اكتشاف خطط تتآمر للانقلاب على الحكومة القائمة كان بعض الضباط طرفاً فيها، ثم اعتقال العشرات من الضباط من رتب مختلفة على ذمة تلك القضايا التي أساءت إلى سمعة الجيش وقللت من هيبته وخفضت من شعبيته.

 

بعد السيطرة النسبية لحزب العدالة والتنمية على مقاليد الأمور في البلاد، والإصلاحات الديمقراطية والقانونية التي قام بها، قدّم رئيس الأركان ورؤساء الجيوش الجوية والبرية والبحرية (أرفع أربع قيادات عسكرية في البلاد) في 29 من تموز/ يوليو 2011 باستقالة جماعية بغية إحراج رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان والضغط عليه، قبل ثلاثة أيام من اجتماع “الشورى العسكرية العليا”، لكنه فاجأهم بقبول الاستقالة وتعيين بدلاء لهم في نفس اليوم. ومنذ ذلك الوقت أصبح اجتماع “الشورى العسكرية العليا” يتم بقيادة واحدة هي قيادة رئيس الوزراء، لكن القوات المسلحة التركية بقيت هيئة مستقلة تابعة لرئاسة الوزراء كما في السابق.

 

الآن، ومع اتفاق الأحزاب المختلفة على تبعية رئاسة الأركان لوزارة الدفاع في الدستور القادم، تكون تركيا قد خطت خطوة كبيرة جداً (وربما نهائية) نحو ترسيخ الإصلاحات الديمقراطية وإبعاد الجيش عن مجال التأثير في الحياة السياسية. وهي خطوة تشكل مع الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي روافع هامة نحو استقرار تركيا ونهضتها لتكون قوة عالمية، ولم يبق أمام ذلك إلا إنهاء مشكلة الإرهاب وإحلال السلام الأهلي من خلال حل المسألة الكردية عبر جهود الحكومة الحثيثة في هذا المضمار، تلك الجهود التي اقتربت من إيتاء أكلها، ولعلها تكون موضوع مقال قريب بإذن الله.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

في أفياء انطلاقتها .. حماس في طور جديد

المقالة التالية

في رثاء أم الشهداء

المنشورات ذات الصلة