تركيا واليونان وتسخين بحر إيجه
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
“ارتفاع درجة حرارة بحر إيجه” هو التعبير الأكثر استخداماً هذه الأيام في الإعلام التركي، وهو تعبير يشير إلى حالة التوتر المتصاعدة بين تركيا واليونان مؤخراً في بحر إيجه، وللقصة تفاصيل كثيرة مثيرة للانتباه.
فقد قام رئيس أركان الجيش التركي خلوصي أكار بزيارة ميدانية رفقة قادة القوات بقرب جزيرة “كارداك” في 30 من كانون الثاني/يناير الفائت، في الذكرى الـ 21 لـ”أزمة كارداك”، وهي الزيارة التي تبعتها سلسلة من المواقف والتصريحات الحادة من الطرفين اليوناني والتركي.
جزيرة كارداك (وتسميها تركيا “التوأم”، وتسميها اليونان “إيميا” او “ليمنيا”) عبارة عن عدة صخور تمتد على مساحة 40 دونماً، وتقع على مسافة 7 كلم غرب مدينة “موغلا” التركية في بحر إيجه، وبقيت متنازعاً عليها بين تركيا واليونان بعد الحرب العالمية الثانية. فلم تنص عليها صراحة أي من الاتفاقات التي رسمت الحدود البحرية بين البلدين، حيث ذكرت اتفاقية لوزان 1923 صيغة “الجزر المتعلقة” وأشار مؤتمر باريس للسلام 1947 (والذي نقل ملكية 12 جزيرة صغيرة من إيطاليا لليونان) إلى “الجزر المتصلة”، بعد أن كانت الاتفاقية التركية – الإيطالية في 1932 قد منحت إيطاليا السيادة على عدة جزر، ثم أضيفت لاحقاً مادة متعلقة بالجزيرة لم تعترف تركيا بها.
في نهايات كانون الثاني/يناير 1996، ومع رسو سفينة تركية على الجزيرة ووصول فرق الإنقاذ التركية واليونانية لمساعدتها، نشب خلاف كاد أن يصل بالطرفين لمواجهة عسكرية مفتوحة، حيث نشر الجنبان قواتهما البحرية حول الجزيرة. رفع اليونانيون علمهم على الجزيرة، قبل أن ترسل رئيسة وزراء تركيا حينئذ تانسو تشيلار القوات التركية البحرية الخاصة لتخترق الطوق وترفع العلم التركي على الجزيرة. تدخلت الولايات المتحدة والناتو لنزع فتيل الحرب، وكان يمكن للحادثة أن تظل مجرد صفحة في التاريخ اسمها “أزمة كارداك”، لكن اليونان فقدت خلالها ثلاثة ضباط إثر سقوط مروحيتهم وهو ما جعلها تحيي ذكراهم سنوياً.
في 2015، قام وزير الدفاع اليوناني بانوس كامينوس بإلقاء إكليل من الزهور في بحر إيجه في ذكرى الضباط الثلاثة، وأعاد الكرة في 2016. ويبدو أن الخطوة قد أزعجت الطرف التركي لما تحمله من رسائل تتعلق بالسيادة على الجزيرة، فقررت قيادة القوات المسلحة القيام بزيارة لها، إلا أن تطورات مثل الانقلاب العسكري ودرع الفرات وغيرها قد أجلت الزيارة.
بعد زيارة أكار وقيادات القوات التركية بيومين، أي في الثاني من شباط/فبراير الحالي، قام وزير الدفاع اليوناني يرافقه قائد قواته الجوية بإلقاء إكليل من الزهور من مروحية يونانية في بحر إيجه لذكرى الضباط اليونانيين، وهو ما اعتبر ضمناً رداً على الزيارة التركية. في تلك الأثناء، وفق وسائل الإعلام اليونانية، قامت المقاتلات التركية من نوع F-16 بطلعات “على علو منخفض” في المنطقة، ثم حصلت احتكاكات بين القوارب اليونانية والتركية المتواجدة في الجوار، قبل أن تقوم وحدات خاصة يونانية في اليوم التالي (2/2) بمناورة تضمنت القفز من المروحيات بالباراشوت على بعد ميلين فقط من الجزيرة، وهو ما اعتبر استعراض قوة من قبل أثينا.
في ردود الفعل اللاحقة، لا يبدو أن الأزمة قد انتهت. فقد اعتبر وزير الدفاع اليوناني الزيارة التركية للجزيرة “عرض كاوبوي على الطريقة الأناضولية”، بينما حذر رئيس الوزراء التركي من أن تركيا رغم حرصها على علاقات الجوار “لديها دائماً رد”. الناطق باسم الخارجية التركية حسين موفتو أوغلو اعتبر المناورة اليونانية “انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي” وحذر “جارتنا اليونان من القيام بتصرفات لا تستطيع تحمل تبعاتها”، بينما اعتقلت اليونان بحاراً تركيا كان يلتقط صوراً تذكارية في ميناء ألفسيس اليوناني بتهمة التجسس.
لا شك أن خلفية العداء التاريخية بين البلدين إضافة إلى ذكرى “أزمة كارداك” قد يبدوان كافيين لشرح أبعاد التوتر الحالي، لكن السياقات المتزامنة والمرافقة تظهر أسباباً أخرى حفزت هذا التصعيد.
في المقام الأول، يبدو قرار المحكمة اليونانية العليا قبل أيام بعدم تسليم تركيا 8 ضباط لجؤوا إليها ليلة الانقلاب أهم الأسباب التي وترت العلاقات التركية – اليونانية، إذ كانت أنقرة تأمل من جارتها تسليمها ضباطاً متورطين في المحاولة الانقلابية الفاشلة، بينما تذرعت المحكمة بالخشية على حياتهم وعدم ضمان محاكمة عادلة لهم في تركيا لرفض التسليم.
أثار هذا القرار سخط أنقرة سيما أنها تواجه مثيله من ألمانيا بخصوص ضباط أتراك في الناتو قدموا طلب لجوء لها، ومن الولايات المتحدة حول فتح الله كولن نفسه الذي لم تسلمه واشنطن ولم تضعه قيد الإقامة الجبرية ولم تحقق معه بل لم تحول الملفات التي أرسلتها لها أنقرة بخصوصه لوزارة العدل أو للقضاء بعد أكثر من 6 أشهر من الانقلاب وفق المصادر التركية.
السخط التركي على الخطوة اليونانية أدى إلى تصريحات وصلت حد التهديد بإلغاء اتفاق إعادة اللاجئين المبرم ثنائياً بين الجانبين التركي واليوناني، وهو ما يبدو أنه سرَّع من زيارة المستشارة الألمانية إلى أنقرة البارحة لمحاولة تطويق الموقف، دون إشارات إيجابية حول مخرجات الزيارة.
من جهة أخرى، استضافت جنيف في 12 من كانون الثاني/يناير الفائت “قمة تاريخية” بخصوص القضية القبرصية شاركت بها لأول مرة – إضافة إلى طرفي الأزمة المحليَيْن – الدولُ الضامنة الثلاثة أي اليونان وتركيا وانكلترا. وهي قمة سادها بعض التفاؤل بقرب الحل، قبل أن تتعقد المحادثات بسبب إصرار اليونان وقبرص الجنوبية (اليونانية) على سحب القوات التركية من الجزيرة وإصرار أنقرة على إدامة دورها الضامن وتثبيته في أي اتفاق حول مستقبل الجزيرة.
الكاتبة التركية هاندا فرات أشارت أيضاً في مقال لها قبل يومين إلى أسباب أخرى للتوتر الحاصل، منها معلومات حصلت عليها أنقرة حول بدء أثينا إجراءات عملية لإعلان سيادتها العملية على عشر جزر في بحر إيجه مثل عرضها للإسكان، إضافة إلى تواتر حوادث تعرض المقاتلات اليونانية لمثيلاتها التركية مؤخراً.
أخيراً، لا ينبغي إغفال أن اليونان (وقبرص اليونانية) من الدول الأكثر معارضة لعضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي والتي تقف عائقاً أمام تسريعه بسبب “الفيتو” الذي تضعه على فتح بعض فصول التفاوض مع أنقرة، وهو موقف يضاف إلى قائمة أسباب التوتر القديمة المتجددة بين الجانبين بلا شك، سيما وأنها على علاقة مباشرة بمسار انضمام تركيا للاتحاد وملف اللاجئين والتوتر في العلاقات التركية – الأوروبية مؤخراً.
من الصعب توقع تفاقم حالة التوتر الحالية وتحولها إلى مواجهة عسكرية بطبيعة الحال، فتركيا اليوم في مرحلة “تقليل الخصوم وزيادة الأصدقاء” في سياستها الخارجية وتحاول قدر الإمكان تخفيف حدة التوتر مع مختلف الفرقاء، وآخر ما قد تريده مواجهة إضافية في ظل كل ملفاتها الداخلية والخارجية وفي مقدمتها الأزمة السورية. من جهتها تدرك اليونان (ومن خلفها الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو) مدى حاجتهم لأنقرة في ملف اللاجئين ومواجهة داعش والأزمة السورية وغيرها من الملفات.
لكن كل ذلك لا ينفي تماماً – للأسف – إمكانية استمرار التصعيد لفترة أو تصاعده بدرجة ما الآن أو في أي وقت لاحق، بسبب الملفات الإشكالية بين الجانبين والتي تتجاوز مجرد الخطوات الرمزية حول الجزر في ذكرى “الأزمة”، لتشمل ملف عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي والقضية القبرصية والسيادة على شرق المتوسط وغازه وملفات حساسة جداً بالنسبة لتركيا مثل الانقلاب والضباط الثمانية في اليونان، وهي ملفات غير قابلة للحل بسهولة على المدى المنظور.