دون سابق إنذار أو سياق محفز، فجر دولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية (ثاني أحزاب المعارضة) قنبلة مدوية حركت أثارت جدلاً كبيراً لم يهدأ بعد ولا يعتقد أنه سيهدأ قريباً حول النظام الرئاسي في تركيا، وهو نقاش قديم كان قد خبا نوعاً ما بعد الانقلاب العسكري الفاشل في 15 تموز/يوليو الفائت.
قال بهجلي ما مفاده أن الواقع الفعلي في الحياة السياسية التركية اليوم يتعارض مع الدستور، حيث ينص الأخير على أن النظام في البلاد برلماني بينما يتمتع الرئيس التركي فعلياً بصلاحيات واسعة فيما يشبه النظام الرئاسي أو شبه الرئاسي. ولإزالة هذا التعارض -الذي عده انتهاكاً للدستور – اقترح زعيم القوميين في تركيا تعديلات دستورية تعيد البلاد لنظام برلماني خالص أو “تـُحوّل الواقع الفعلي إلى أمر رسمي” بإقرار النظام الرئاسي في البلاد، مطالباً الحزب الحاكم بتقديم مقترحه حول النظام الرئاسي للبرلمان، الأمر الذي تجاوب معه رئيس الحكومة وحزب العدالة والتنمية الحاكم بن علي يلدرم واعداً بتقديم المقترح “خلال عشرة أيام”.
كما كان متوقعاً، انتقد حزبا الشعب الجمهوري (أكبر أحزاب المعارضة) والشعوب الديمقراطية (القومي الكردي) تصريحات الرجل واتهموه بعقد صفقات سرية مع العدالة والتنمية وترتيب الأمر بعيداً عن الأعين ثم طرحه وكأنه مبادرة منه، بالنظر إلى طرح الفكرة دون أي أسباب أو سياقات مفهومة أو داعية له وبعد غيابه عن الأجندة السياسية التركية لأشهر طويلة سيما منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة، فضلاً عن سرعة تجاوب الحزب الحاكم مع الأمر وطرح جدول زمني محدد للخطوات العملية المقبلة.
بيد، لو تجنبنا الدخول في الضمائر والنوايا وناقشنا مضمون كلام السياسي المخضرم، لرأينا أنه لم يجانب الصواب. فصحيح أن النظام في تركيا جمهوري برلماني، إلا أن دستور عام 1982 الذي أتى بعد انقلاب 1980 وما زال معمولاً به حتى الآن يعطي الرئيس صلاحيات استثنائية ويتيح له تعطيل عمل أو “فرملة” الحكومة والبرلمان مع تحصينه بالكامل من المتابعة والمحاسبة اللهم إلا بتهمة الخيانة الكبرى (تمهيداً وخدمة لرئيس الانقلاب كنعان افرين).
وإضافة إلى هذا الخلل في الدستور، فقد طرأ على الأخير عدة تعديلات دستورية أهمها استفتاء عام 2007 الذي أتاح انتخاب الرئيس لأول مرة من الشعب باقتراع مباشر (كان ينتخبه البرلمان بعد توافقات الأحزاب ومساوماتها) بما يمنحه شرعية انتخابية – شعبية إضافة لشرعيته الدستورية – القانونية، وهو ما يتمتع به الرئيس الحالي اردوغان ويطبقه كما سبق وأعلن خلال حملته الانتخابية.
في المحصلة، صحيح أن الرئيس يستخدم صلاحياته المنصوص عليها دستورياً، لكن النظام السياسي للبلاد حالياً أضحى أشبه بنظام هجين بين الرئاسي والبرلماني، ويستبطن عدة تقاطعات وتداخلات بين سلطاته الثلاث بل في كثير من الأحيان بين مؤسستي السلطة التنفيذية أي الرئاسة والحكومة، وهي وصفة اضطراب وتعطيل وإفشال لم يحصلوا حتى الآن باعتبار أن الرئيس ورئيس الوزراء من نفس الحزب والتوجه السياسي، لكنها تبقى احتمالات قائمة بين يدي أي تغيير في الأشخاص أو الأفكار أو السياسات.
وعليه، فتركيا أمام استحقاق صياغة دستور جديد تتفق جميع الأحزاب السياسية في البلاد على ضرورته لكنها تختلف على بعض تفاصيله، سيما ما يتعلق بالنظام السياسي. فقد اتفقت الأحزاب الثلاثة الرئيسة، من خلال عدة اجتماعات بنت على حالة التوافق بعد الانقلاب الفاشل، على عرض حوالي 60 مادة دستورية على البرلمان للتعديل بعد توافقهم عليها وهي مواد تتناول الحريات والحقوق الأساسية في مجملها، بينما يبقى النظام الرئاسي عقبة كأداء لم يستطيعوا تجاوزها حتى الآن. فكيف سيتم الأمر؟
يحتاج أي دستور جديد أو تعديل دستوري لموافقة ثلثي أعضاء البرلمان أي 367 نائباً من أصل 550، أو إلى موافقة نسبة الثلثين (330 نائباً) لعرض الأمر على استفتاء شعبي. وبعملية حسابية بسيطة لتركيبة البرلمان الحزبية، لا يملك العدالة والتنمية أن يقر الدستور الجديد بمفرده (يملك 316 نائباً) ولا حتى بالتحالف مع الحركة القومية بفرض وجود هذا التحالف (يملك الأخير 40 نائباً)، بينما سيحتاج الحزب الحاكم إلى 14 صوتاً فقط لعرض الأمر على الاستفتاء الشعبي.
حسناً، توحي مبادرة دولت بهجلي – الداعم لسياسات الحكومة بمكافحة “الإرهاب” وعملية درع الفرات في سوريا وتمديد حالة الطوارئ وغيرها – بأن حزبه على استعداد ليقدم “دعماً ما” لمقترح العدالة والتنمية، الذي تكفيه الأصوات الـ14 المذكورة في تصويت سري، في ظل الرفض الحاسم لحزبي المعارضة الرئيسين للأمر، وهو ما يبدو كافياً جداً بالنسبة للعدالة والتنمية. ذلك أن نتيجة %50 زائد واحد من أصوات المقترعين في الاستفتاء كافية لتمرير التعديل الدستوري، وهي نسبة قريبة جداً من نسبة التصويت للحزب في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في تشرين الثاني/نوفمبر 2015 (%49.5)، بل هي أقل من نسبة التصويت لاردوغان في الانتخابات الرئاسية في 2014 (%52). فإذا ما أضفنا ارتفاع شعبية الرئيس والحزب بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة إلى ذلك سنجد أن النتيجة ستكون شبه مضمونة، وهو ما يؤكده آخر استطلاع للرأي أجرته شركة (A & G) أعطى الحزب الحاكم نسبة %54.6.
إذن، في حال التزم العدالة والتنمية بالجدول الزمني الذي تعهد به، سيكون مقترحه معروضاً للنقاش تحت قبة البرلمان خلال أيام، وثمة فرصة كبيرة جداً أن يحصل لدى التصويت عليه على النسبة المطلوبة لعرضه على الشعب الذي يبدو أنه يتجه نحو الموافقة سيما وأن المقترح مقرون حالياً باسم اردوغان كأهم المرشحين للرئاسة، بكل ما يملك من تاريخ وإنجازات وكاريزما أضيف لها مؤخراً إفشال المحاولة الانقلابية.
لكن هذه العمليات الحسابية ليست قطعية أو حتمية بطبيعة الحال، كما أنها لا تغني عن مناقشة مضمون مقترح العدالة والتنمية وتفاصيله المتعلقة بالنظام الرئاسي وشرحها للمقترعين ولعموم الشعب التركي. فالمتداول حتى الآن هو “نظام رئاسي تركي شبيه بالأمريكي”، مع اختلافات واضحة في مقدمتها غياب فكرة الفيدرالية وتعدد المجالس النيابية (سيبقى برلماناً واحداً)، بما يعد بنقاشات مطولة في البرلمان ووسائل الإعلام وغيرها من المحافل.
إذا ما تم للعدالة والتنمية ما يريد، ستكون تركيا أمام استحقاق جديد وهو الانتخابات الرئاسية الأهم في تاريخها، والتي بدأت بعض التسريبات تتحدث عن موعدها في الربيع القادم، وبعضهم قرنها بانتخابات برلمانية مبكرة في تاريخ قريب من ذلك أو بالتزامن معها، وهو ما يعني مرحلة مختلفة كلياً في تاريخ تركيا الحديث ومسيرة العدالة والتنمية فيها منذ 2002.