مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات
مقدمة
شهد العامان 2014 – 2015 حالة من تراجع الحضور التركي في القضية الفلسطينية اهتماماً وتأثيراً لعدة أسباب، أهمها التحولات الإقليمية التي شهدت تراجع الموجة الأولى من ثورات الربيع العربي وانكفائها أمام الثورة المضادة وارتدادات ذلك على مختلف الدول، وإخفاق السياسة الخارجية لتركيا في إحداث اختراقات مهمة في الملفات الإقلمية وفي مقدمتها الأزمة السورية وما تبع ذلك من دعوات لإعادة التقييم ثم التقويم لركائز السياسة الإقليمية التركية، وانشغال أنقرة بملفاتها الداخلية مثل المنافسات الانتخابية ثم موجة التصعيد العسكرية مع حزب العمال، وتراجع حضور القضية الفلسطينية إقليمياً ودولياً خلف قضايا أخرى، وافتقاد تركيا لأدوات التأثير في ظل القطيعة مع القاهرة وتل أبيب، فضلاً عن الأزمة الأخيرة مع روسيا على هامش إسقاط أنقرة لمقاتلتها وما تبع ذلك من تحجيم للدور التركي في سوريا وعودة الأخيرة للتماهي شبه التام مع السياسات الأمريكية والغربية في المنطقة.
وعليه، فرغم احتفاظ تركيا بالأسس العامة لسياستها تجاه القضية الفلسطينية ومختلف أطرافها، إلا أن جملة المتغيرات المذكورة منعت أنقرة من إمكانية التأثير الكبير خلال السنتين الماضيتين في القضية الفلسطينية، كما أسهمت بطريقة أو بأخرى في تغير السقف التركي في التعامل مع بعض جزئيات القضية كما سنرى لاحقاً. وقد بدا ذلك واضحاً في العدوان على قطاع غزة عام 2014 ثم في انتفاضة/هبة القدس عام 2015، حيث اختلف سقف الدعم والتأثير التركي عنه في العدوان عام 2012 مثلاً.
محددات وإطار العلاقات التركية الفلسطينية
يدرك أي متابع جيد لتركيا أن التعاطف مع القضية الفلسطينية حالة متجذرة على مختلف المستويات، الشعبية – الجماهيرية، والمؤسسية – النخبوية، والسياسية – الحزبية، الأمر الذي انعكس على سياسة البلاد الخارجية، سيما مع العدالة والتنمية الذي يحكم البلاد منذ عام 2002 والذي ينتهج – في مختلف القضايا – سياسة منسجمة مع الشارع. هذا الاهتمام الخاص من تركيا العدالة والتنمية بالقضية الفلسطينية يخضع لعدة اعتبارات، أهمها:
- الروابط الدينية والثقافية والفكرية المشتركة بين الشعبين التركي والفلسطيني.
- الخلفية التاريخية للقضية الفلسطينية واعتبار تركيا نفسها وريثة للدولة العثمانية آخر الدول ذات السيادة على الأراضي الفلسطينية، وبالتالي استشعارها لمسؤولية خاصة تجاهها.
- التناغم مع الشارع التركي الذي يظهر تعاطفاً كبيراً مع القضية الفلسطينية.
- إدراك تركيا أن القضية الفلسطينية هي مفتاح العبور للقبول والتأثير في المنطقة.
- ترى تركيا أن القضية الفلسطينية ورقة رابحة في الساحة الدولية لمن يمتلك فيها تأثيراً، وهو ما قد يفسر مثلاً تصريح وزير الخارجية التركي السابق مولود جاووش أوغلو بأن حماس وصلت إلى مرحلة القبول بالاعتراف بـ”إسرائيل” وأن بلاده كان لها الدور الأكبر في ذلك.
- نظرية أنقرة في السياسة الخارجية قائمة على تصفير المشاكل والتواصل الاقتصادي – التجاري وتحتاج لمناخ هادئ، وهذا أحد الأسباب التي تدفع تركيا للمساهمة في حل القضية.
- مظلومية الشعب الفلسطيني وأحقيته في أرضه المحتلة وفق القانون الدولي.
- الخلفية الأيديولوجية والفكرية لمعظم قيادات الحزب كإسلاميين خرجوا من عباءة تيار “الفكر الوطني” أو “ميللي غوروش” الذي أسسه الراحل نجم الدين أربكان، وإن كان الحزب بحد ذاته ديمقراطياً محافظاً وليس أيديولوجياً أو “إسلامياً” بالمعنى المتداول عربياً.
هذه الاعتبارات وغيرها أسهمت في صياغة علاقة خاصة بين القيادة التركية الجديدة والقضية الفلسطينية، بيد أن هذا الاهتمام لم يكن يوماً سياسة متهورة أو دعماً دون سقف، بل انضبط دائماً بعدد من المحددات المهمة، ومنها:
- الالتزام بالخطوط العامة للأمن القومي التركي وشبكة مصالحه، التي أعاد العدالة والتنمية تفسيرها أو صياغتها ولم ينقضها أو يناقضها تماماً، بمعنى أن المصالح كانت دائماً مقدمة على الأخلاق والمبادئ، وإن استطاعت أنقرة في معظم الأحيان الجمع بين الطرفين.
- التحرك ضمن المنظومة الدولية، واستشعار الحدود المسموح بها في السياسة الخارجية وفق اعتبارات عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي وملف عضويتها الموضوع على طاولة الاتحاد الأوروبي.
- الالتزام بالحل السياسي للقضية الفلسطينية، وفق رؤية “حل الدولتين” والمبادرة العربية للسلام، بل والذهاب إلى أبعد من ذلك بالدعوات المتكررة لإشراك حركة حماس في العملية السياسية ونصحها بإلقاء السلاح، وهي دعوات صدرت من رئيس الوزراء التركي السابق والرئيس الحالي رجب طيب اردوغان بعد انتخابات 2006 حين دعا حماس لإلقاء السلاح والتحرك نحو الاعتدال، كما تكررت على لسان وزير الخارجية التركي السابق كما ورد آنفاً.
- عدم تخطي حدود الدعم السياسي – الإعلامي – المالي، خصوصاً في العلاقة مع الفصائل الفلسطينية، مع مراعاة أن يكون الدعم المالي تحديداً على شكل معونات إغاثية وإنسانية ومشاريع دعم للبنية التحتية.
- الحفاظ على علاقات جيدة ومتوازنة مع جميع الأطراف الفلسطينية، والتعامل مع القضية الفلسطينية من بوابة السلطة والرئيس الفلسطيني محمود عباس، بالرغم من نتائج انتخابات 2006 التي فازت فيها حركة حماس.
- عدم الإضرار بعلاقات تركيا الإقليمية والدولية، وخصوصاً مع دولة الاحتلال قبل القطيعة السياسية بينهما.
- اعتماد التدرج في تقديم الدعم للفلسطينيين، باعتبار أن السياسة الخارجية أحد تمظهرات متانة المشهد السياسي الداخلي ونتائجها المباشرة، وبذلك فقد ازداد انخراط تركيا العدالة والتنمية في القضية الفلسطينية وارتفع سقف خطابها وموقفها منها مع مرور الوقت وتراكم إنجازات الحزب وشعوره بنوع من الاستقرار الداخلي والالتفاف الجماهيري، مستفيدة من اللعب في المساحات الرمادية.
- تجنب تركيا للمواجهات المباشرة والحادة مع أي طرف، وصعوبة تحركها – من الناحية الفعلية – منفردة ودون شركاء إقليميين، بغض النظر عن ارتفاع سقف الخطاب.
- اهتمام خاص بمدينة القدس لرمزيتها وتاريخها العثماني ووضعها القانوني، فضلاً عن أولوية الملفات الإنسانية مثل حصار قطاع غزة.
بيد أن هذا الاهتمام اصطدم بعدة عقبات، أهمها موجة ثورات الربيع العربي التي عصفت بالتوازنات والتحالفات السياسية في المنطقة بذات القدر الذي عصفت فيه بأسس السياسة الإقليمية لأنقرة. فالعمق الاستراتيجي لتركيا تحول إلى محيط لاهب، ونظرية “صفر مشاكل” تحولت بفعل الثورات والثورات المضادة إلى “صفر هدوء”، بينما فشلت القوة التركية الناعمة في إحداث اختراقات مهمة في المنطقة بعد أن أضحت أنقرة في قلب حالة الاستقطاب الإقليمية بسبب مواقفها المعلنة من الثورات، سيما الثورة السورية وتفاعلاتها اللاحقة.
أدت هذه التطورات المتلاحقة وفشل أنقرة في تحقيق أي إنجاز خارجي يبلور واقعياً رؤيتها للحل إلى نتيجتين رئيستين: إعادة تقييم تركيا لسياستها الخارجية وانخفاض مستوى تفاعلها مع القضية الفلسطينية. ويمكننا في هذا السياق إجمال السياقات التي ساهمت في تراجع هذا الاهتمام فيما يلي:
- تفاعلات الثورات والثورات المضادة التي أدت إلى تراجع الحدث الفلسطيني على سلم أولويات مختلف الدول ذات العلاقة ومنها تركيا.
- الضغوط الخارجية التي مورست على تركيا بسبب مواقفها التي نحت نحو نوع من الاستقلالية النسبية في السياسة الخارجية، سيما فيما يتعلق بكل من سوريا ومصر وفلسطين.
- الانشغال بملفات السياسة الداخلية على حساب السياسة الخارجية بشكل عام والقضية الفلسطينية بشكل خاص، مثل أحداث “جزي بارك” ثم ادعاءات الفساد بحق الحكومة والحزب، ثم تعثر عملية المصالحة الداخلية مع الاكراد إثر استئناف حزب العمال الكردستاني لعملياته العسكرية.
- تطورات الملف السوري بشكل خاص بطريقة لامست الخطوط الحمراء للأمن القومي التركي، من حيث احتمالات تقسيم سوريا والتدخل العسكري الروسي وإرهاصات إنشاء كيان سياسي (ممر) للأكراد في الشمال السوري.
- انقطاع العلاقات الدبلوماسية مع دولة الاحتلال إثر الهجوم على سفينة مرمرة الزرقاء، الأمر الذي أفقد تركيا إمكانية لعب دور الوسيط.
- العلاقات المتوترة مع عدد من الدول المؤثرة في القضية الفلسطينية، وفي مقدمتها مصر بعد الانقلاب، الأمر الذي أدى – مضافاً إلى العلاقات المتوترة مع تل أبيب – إلى تضاؤل فرص التدخل التركي. ويكفي للتدليل على هذا العامل المقارنة بين الدور الذي لعبته تركيا خلال العدوان على غزة عام 2012 في ظل رئاسة مرسي لمصر، وذلك الذي لعبته – أو بالأحرى لم تستطع لعبه – خلال عدوان 2014 على القطاع خلال رئاسة السيسي.
- حالة الانقسام السياسي الفلسطيني بما يؤدي إلى تقزيم نتائج أي جهد مبذول في نصرة القضية الفلسطينية، رغم المحاولات المتكررة لرأب الصدع والدعوات للتوحد.
- العزلة التي عانت منها تركيا في المنطقة إثر مواقفها من القضايا المختلفة، سيما السورية والمصرية، وفقدانها لتحالفات متينة ومستدامة تستند عليها في سياساتها الإقليمية.
- الفترة الانتقالية في تركيا بعد انتخابات السابع من حزيران/يونيو التي سلبت العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية، مفتتحة عهداً من اللا استقرار السياسي والتذبذب الاقتصادي والتوتر الأمني، وهو ما دفع تركيا للانكفاء على الداخل وتقديم بعض التنازلات في السياسة الخارجية.
هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى تراجعات تكتيتيكة من قبل أنقرة، منها السماح – بعد سنوات من الرفض – للولايات المتحدة باستخدام قاعدة إنجيرليك العسكرية، والانخراط الفعلي في التحالف الدولي لمكافحة تنظيم الدولة بعد أشهر من التردد، وخفوت الصوت التركي في مواجهة نظام السيسي، واللهجة اللينة مقابل التدخل العسكري الروسي على الحدود الجنوبية، والقبول الضمني ببقاء الأسد في الحكم خلال الفترة الانتقالية للحل السياسي المنتظر.
وفي اتجاه مواز، ورغم استمرار الدعم السياسي للفلسطينيين في المحافل الدولية وخصوصاً في ملف قبول فلسطين كمراقب غير عضو في الأمم المتحدة ثم رفع العلم الفلسطيني على ساريتها، إلا أن الموقف التركي الرسمي بات مؤخراً أقرب إلى الظاهرة الصوتية – بغض النظر عن النوايا – بفعل العوامل سابقة الذكر، وقد ظهر ذلك جلياً في هبة/انتفاضة القدس الأخيرة مثلاً، حيث لم يتخط الموقف الرسمي بعض التصريحات/البيانات الخجولة، بينما غابت المظاهرات التركية الحاشدة الداعمة للفلسطينيين بفعل ضغط الملفات الداخلية والانتخابات المتتالية.
قبل ذلك، كان لافتاً مغادرة عدد من القيادات والكوادر الفلسطينية (الحمساوية) للأراضي التركية نحو الدول العربية إما بتلميح من أنقرة أو تحسباً لأي طارئ قبل وخلال وبعد الانتخابات، بينما تراجعت وتيرة زيارات الوفود الفلسطينية – على الأقل العلنية منها – لتركيا في الفترة السابقة على الانتخابات الأخيرة.
وقد شهد العامان 2014 و 2015 حدثين مهمين يدللان على حقيقة ترجاع الموقف التركي، الأول هو عدوان 2014 على قطاع غزة (العصف المأكول)، وانتفاضة/هبة القدس 2015.
فرغم الفارق الزمني البسيط بين عدوان عام 2012 (حجارة السجيل) وعدوان 2014 (العصف المأكول) إلا أن الموقف التركي شهد تبدلاً كبيراً جداً على مستوى الفعل والتأثير – وإن لم يتغير كثيراً مستوى الاهتمام والتفاعل – بسبب المتغيرات الإقليمية المذكورة، وخصوصاً الانقلاب في مصر الذي أثر في بعدين مهمين، العلاقة العدائية تجاه قطاع غزة والمقاومة الفلسطينية بالمقارنة مع فترة حكم محمد مرسي، والعلاقة المتردية مع تركيا والتي أدت إلى فقدان الأخيرة لأدوات التواصل والتأثير، خصوصاً إذا ما قرنت بالعلاقات السيئة أيضاً مع تل أبيب. وهكذا لم تستطع أنقرة الضغط باتجاه وقف سريع لإطلاق النار كما حدث في عدوان 2012، كما امتنعت حتى عن تقديم مبادرة تركية (أو تركية – قطرية) لوقف إطلاق النار تنافس المبادرة المصرية المجحفة بحق الفلسطينيين.
لكن لا بد لنا من تسجيل الهبة الشعبية الكبيرة في الشارع التركي عبر عشرات المظاهرات والوقفات الاحتجاجية، فضلاً عن الاهتمام الإعلامي وجمع التبرعات، بل وإعلان تركيا الرسمية الحداد ثلاثة أيام على الشهداء في غزة.
أما التفاعل التركي مع انتفاضة القدس فقد كان أقل مستوى منه مع العدوان على غزة في العام الذي سبقه، رغم أن المسجد الأقصى والقدس يمثلان إلى جانب الوضع الإنساني في غزة من أهم مرتكزات السياسة التركية إزاء القضية الفلسطينية في السنوات القليلة الأخيرة.
ومن أهم أسباب هذا التباين ذلك الاختلاف الكبير بين مشهد القصف الصهويني على غزة وسقوط عشرات الشهداء وبين مواجهات سلمية شبه يومية بين الشباب الفلسطيني وقوات الاحتلال واختلاف المشهدين في الوعي الجمعي التركي شديد العاطفة والتأثر بالدماء والدمار. أما ثاني هذه الأسباب فهو انشغال الشارع وصانع القرار التركيين بالوضع الداخلي، فقد بدأت الانتفاضة في الفترة الانتقالية في تركيا ما بعد انتخابات حزيران/يونيو التي فقد فيها العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية ولم تسفر عن تشكيل حكومة مستقرة، مع ما رافق ذلك من تذبذب اقتصادي، وتبعه من موجة تصعيد عسكرية وأمنية مع حزب العمال الكردستاني.
محددات وإطار العلاقة مع دولة الاحتلال
بعد خمس سنوات ونصف من القطيعة الدبلوماسية بين تركيا ودولة الاحتلال على خلفية الاعتداء على سفينة “مافي مرمرة” وسقوط عشرة شهداء أتراك، عادت مجدداً الأحاديث عن إمكانية تطبيع العلاقات بين الطرفين، هذه المرة عبر تسريبات إعلامية “إسرائيلية” واعتراف تركي بحدوث تقدم ما في المفاوضات بينهما.
وقبل تحليل الوضع الحالي ومحاولة استشراف المستقبل، ينبغي الوقوف على المحددات التي شكلت وتشكل إطار علاقة تركيا في عهد العدالة والتنمية بدولة الاحتلال، وأهمها:
أولاً، البناء على العلاقة الممتدة بين الطرفين على مدى عشرات السنوات، وعدم القدرة على – وربما غياب النية لـ – إحداث تغييرات جذرية ومباشرة فيها.
ثانياً، مراعاة الأوضاع السياسية في البلاد حين تسلم الحزب الحكم، وخصوصاً وصاية المؤسسة العسكرية التركية على المشهد السياسي، وهي صاحبة العلاقات المتميزة مع “إسرائيل”.
ثالثاً، وضع العلاقة تحت بند الخطوط العامة للأمن القومي التركي ومصالح تركيا التي أعاد الحزب الحاكم تفسيرها وصياغتها ولم ينقلب عليها بشكل دراماتيكي.
رابعاً، نظرية الحزب في ضرورة تطويع السياسة للاقتصاد في السياسة الخارجية – أي “الارتباط المعزز” بينهما – في ظروف العلاقات الطبيعية مع الدول، والفصل – “فك الارتباط” – بينهما في فترات التوتر، أي الحفاظ على العلاقات التجارية والاقتصادية رغم الخلافات السياسية، وهو ما فعلته تركيا بعد أزمة سفينة مرمرة.
خامساً، تجنب تركيا للمواجهات المباشرة والحادة مع أي طرف، وصعوبة تحركها منفردة دون شركاء إقليميين، بغض النظر عن مدى ارتفاع سقف الخطاب.
سادساً، اعتبار العلاقة مع دولة الاحتلال جزءاً من منظومة علاقات تركيا الغربية – الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي – ومفتاحاً لنيل ثقة هذه الأطراف من خلال العلاقة الجيدة – أو على الأقل غير المتأزمة – معها.
سابعاً، حاجة تركيا لـ”إسرائيل” في عدة مجالات، وتحديداً التعاون الأمني وتطوير الأسلحة والصناعات الدفاعية، خصوصاً في سنوات حكم العدالة والتنمية الأولى.
ثامناً، مراعاة التدرج في العلاقة، بحيث تنعكس قوة وضع الحزب الداخلي على العلاقة مع دولة الاحتلال، تخففاً من بعض الالتزامات والروابط، بشكل هادئ وبطيء لا يؤدي إلى أزمات حادة معها ولا يستثير الغرب ضد أنقرة.
تاسعاً، عدم تجاوز السقف العربي – الدولي في التعامل مع القضية الفلسطينية، والالتزام بالحل السياسي لها وفق رؤية “حل الدولتين” والمبادرة العربية للسلام، بل والدعوة لإشراك حركة حماس في عملية التسوية.
عاشراً، عدم تخطي حدود الدعم السياسي – الإعلامي – المالي للفصائل الفلسطينية، مع مراعاة أن يكون الدعم المالي تحديداً على شكل معونات إغاثية وإنسانية ومشاريع دعم للبنية التحتية لعدم الإضرار بالعلاقة مع دولة الاحتلال قبل الأزمة معها.
لم يجد جديد من الناحية الرسمية في العلاقات الثنائية ما بين أنقرة وتل أبيب في العامين 2014 و2015، فاستمرت القطيعة الدبلوماسية الرسمية رغم عقد عدة لقاءات بين الطرفين في محاولات لجسر الهوة بينهما، واستمرت العلاقات التجارية الثنائية في النمو والازدياد.
بيد أن الخطاب السياسي والإعلامي بين الطرفين مر بمرحلتين واضحتي التناقض، أولهما مرحلة التوتر الشديد والتراشق الإعلامي والتحريض واستمرت حتى منتصف 2015 تقريباً، ثم مرحلة الهدوء والحديث عن اتفاق محتمل بين الطرفين لإنهاء سنوات القطيعة وتطبيع العلاقات.
في المرحلة الأولى يمكن تسجيل مواقفف واضحة مثل إعلان نائب رئيس الوزراء التركي بشير أطالاي عن دعم بلاده لمحاكمة “إسرائيل” أمام محكمة الجنايات الدولية، واتهام رئيس البرلمان التركي عمر تشيشك خلال مشاركته في نشاط بذكرى “المحرقة” في كانون الثاني/يناير 2015 “إسرائيل بذبح 2000 من الأطفال والنساء بغزة”، لإضافة لإلغاء وزير الخارجية التركي مشاركة له في مؤتمر للأمن في ألمانيا في شباط/فبراير 2015 بسبب المشاركة “الإسرائيلية”.
من جهتها، صعدت الجهات “الإسرائيلية” حملتها ضد أنقرة، فشكتها بشكل رسمي لقيادة حلف شمال الأطلسي بسبب وجود قيادات من حماس على أراضيها، ثم اتهمتها باستضافة أنشطة لكتائب القسام، وحملتها أخيراً مسؤولية بعض العمليات في الضفة الغربية بسبب هذه الاستضافة، فضلاً عن شماتة قيادات دولة الاحتلال، وفي مقدمتهم شمعون بيريز بتراجع العدالة والتنمية في انتخابات السابع من حزيران/يونيو 2015 باعتبار أنه فرصة لتراجع دعم حركة حماس في المنطقة.
هذه الحدة في الخطاب السياسي بين الطرفين بدأت تهدأ بشكل تدريجي وملحوظ ابتداءً من حزيران/يونيو 2015، في ظل أنباء عن عقد لقاءات بينهما بغية تطبيع العلاقات، حرصت تركيا على التأكيد حينها أن لا تغيير قد طرأ على موقفها المتمسك بشروطها الثلاثة لتطبيع العلاقات، أي الاعتذار (الذي تم سابقاً في 2013) وتعويض ذوي الشهداء وكسر الحصار عن غزة.
في كانون الأول/ديسمبر 2015، سربت وسائل الإعلام العبرية خبراً عن اتفاق “قد أنجز” بين أنقرة وتل أبيب لتطبيع العلاقات بشكل نهائي بما في ذلك بعض البنود المتفق عليها، والتي كان من ضمنها تقييد العلاقة مع حركة حماس و”طرد” بعض قيادييها من تركيا. في المقابل بدى الموقف التركي مرتبكاً بعض الشيء، فتراوحت تصريحاته بين الاعتراف بوجود محادثات ونفي الوصول إلى اتفاق، بين التأكيد على ثبات الموقف التركي من السياسات “الإسرائيلية” واعتبار “الشعب الإسرائيلي صديقاً للشعب التركي”، بين اعتبار التقارب مصلحة “للبلدين والمنطقة” والتفاخر بأن تركيا هي الدولة الوحيدة التي “أجبرت إسرائيل على الاعتذار”، بين التأكيد على الشروط الثلاث في التصريحات العامة وذكر صيغة “تخفيف الحصار” بدل “رفع الحصار” لدى ذكر التفاصيل.
لم يكن هذا التحول اعتباطياً أو مفاجئاً، بل مهدت له عدة سياقات وأسباب، أهمها:
أولاً، انتخابات حزيران/يونيو والفترة الانتقالية التي نقلت لصانع القرار في تركيا رسالتين إحداهما داخلية من الناخب والثانية خارجية من “الحلفاء” بضرورة التغيير، وقد صدرت عدة تصريحات من مسؤولين في الحزب الحاكم والحكومة في أنقرة بضرورة عودة السياسة الخارجية التركية لواقعيتها وبراغميتها المعروفة عنها.
ثانياً، الأزمة مع روسيا والتي دفعت أنقرة للبحث عن حلفاء جدد – قدماء، وتخفيف حدة الخلاف مع بعض الدول الإقليمية (دولة الاحتلال، مصر والإمارات)، على المستويين السياسي والاقتصادي.
ثالثاً، موجة التصعيد المستمرة منذ تموز/يوليو 2015 مع حزب العمال الكردستاني التي ترى تركيا أن خلفها بعض الأطراف الإقليمية ومنها “إسرائيل”، وهو ملف ذو أولوية قصوى لتركيا، ولذلك ترى أنقرة أن تطبيع العلاقات مع تل أبيب قد يساعد على كبح جماح الحزب الكردي المسلح.
رابعاً، تعدد الملفات ذات الاهتمام المشترك والمهددات المشتركة بين الطرفين مؤخراً، بدءاً من تطورات الأزمة السورية، مروراً بتنظيم الدولة – داعش والتحالف الدولي لمكافحته، وليس انتهاءً بالتمدد الإيراني والتواجد العسكري الروسي المباشر في المنطقة.
خامساً، قرار دولة الاحتلال بتفعيل ملف تطبيع العلاقات مع أنقرة، إذ من ناحية المبدأ لم تغير الأخيرة من شروطها الثلاثة المعلنة ولم يطرأ جديد منذ آخر جولة مفاوضات، بيد أن نتنياهو كان يراهن على تراجع آخر للعدالة والتنمية في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر 2015. وحين حاز الأخير أغلبية برلمانية تؤهله لتشكيل حكومة مستقرة حتى عام 2019، يبدو أن تل أبيب رأت أنه لا فائدة من التأجيل أكثر.
ما يميز هذه الجولة من المفاوضات بين الطرفين مجموعة من العوامل المحفزة، منها ما هو متعلق بالظرف الإقليمي – الدولي الدافع للطرفين نحو التقارب، ومنها ما هو خاص بكل منهما على حدة، ومنها ما هو مرتبط بما سبق من مباحثات، أهمها:
– عدم ممانعة تركيا عودة العلاقات من الناحية المبدئية وربطها الأمر بشروط إجرائية.
– تضرر الطرفين من فترة انقطاع العلاقات الدبلماسية، فتركيا فقدت القدرة على لعب دور مؤثر في القضية الفلسطينية بعد تردي علاقاتها مع كل من تل أبيب والقاهرة، بينما حال الفيتو التركي دون مشاركة “إسرائيل” في بعض أنشطة ومناورات حلف الناتو، فضلاً عن أنها فقدت حليفاً مهماً لها في فترة تمر فيها المنطقة بتحولات سياسية – اجتماعية ضخمة تمتاز بسيولة كبيرة ونتائج غير متوقعة.
– الانتهاء منذ فترة طويلة من الشرطين الأولين، ووقوف المحادثات عند الشرط المتعلق بحصار غزة.
– إرادة الطرفين بترميم العلاقة بينهما لطي صفحة الخلاف والتوتر.
– الضغوط الأمريكية على حليفيها الاستراتيجيَيْن في المنطقة للتقارب في ظل المتغيرات الإقليمية الكثيرة.
– قناعة الطرف “الإسرائيلي” بعدم جدوى تأخير الملف أكثر من ذلك، بعد أن كان يراهن على تراجع آخر لحزب العدالة والتنمية في انتخابات تشرين الثاني/نوفمبر الفائت يضعف موقف تركيا في المباحثات. بينما أعادت الانتخابات الحزب إلى أغلبيته البرلمانية وساعدته على تشكيل حكومة قوية بمفرده، فاضطر نتنياهو لتفعيل الملف المجمد على طاولته منذ 2014.
– تطورات الأزمة السورية وما نتج عنها من مهددات مشتركة للطرفين، في مقدمتها تنظيم الدولة – داعش.
– التواجد الروسي العسكري المباشر في سوريا منذ نهاية أيلول/سبتمبر الماضي، وهو عامل مهدد لكلا الطرفين، بغض النظر عن درجة التنسيق بين روسيا و”إسرائيل”.
– النفوذ الإيراني المتزايد في المنطقة، وخاصة سوريا، والذي ينظر له الطرفان بنوع من الريبة، تحديداً بعد الاتفاق النووي بين إيران ودول (5 زائد 1) الذي يتوقع أن يزيد من هذا النفوذ.
– الحاجة المتبادلة في ملف الغاز الطبيعي، بعد العقوبات الروسية الاقتصادية على تركيا واكتشاف حقول على الشواطئ الفلسطينية واللبنانية تتجه “إسرائيل” للسيطرة عليها واستثمارها، بحيث تقلل تركيا من نسبة اعتمادها على الغاز الروسي (%55 من حاجة تركيا من الغاز الطبيعي يأتي حالياً من روسيا)، وتجد “إسرائيل” سوقاً جديدة وممراً لعبور “غازها” إلى الدول الأوروبية.
– العزلة التي تعانيها تركيا في المنطقة، والنداءات المتكررة من مسؤولين في الحكومة والحزب الحاكم بضرورة مراجعة السياسة الخارجية وتصويب مسارها، في محاولة لتقليل الخصوم وتدوير الزوايا مع عدد من دول المنطقة.
– تأييد جزء مهم من المعارضة التركية (حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي تحديداً) لتعديل سياسة تركيا الخارجية، وخصوصاً في جزئية إعادة العلاقة مع “إسرائيل”.
– رغبة تركيا في كسب دعم يهود روسيا لكبح جماح بوتين في حزمة عقوباته ضد تركيا، فضلاً عن زيادة التوتر معها.
– انشغال أنقرة بالتصعيد العسكري مع حزب العمال الكردستاني منذ تموز/يوليو الماضي، ورغبتها في التركيز على حسمه أولاً، وتحييد العامل الخارجي في إذكائه ثانياً.
– التخوف التركي من تسارع خطوات المشروع السياسي لأكراد سوريا على حدودها الجنوبية، وهو ما تعتبره أنقرة خطاً أحمر وفق معايير أمنها القومي، مضافاً للعلاقات التي تربطهم بدولة الاحتلال سياسة وتسليحاً. حيث تأمل تركيا أن تحد من طموح حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري) في إقامة ممر كردي شمال سوريا يمتد من حدود العراق إلى البحر المتوسط، من خلال التقارب مع تل أبيب وإرضائها.
– رغبة تركيا بتسجيل إنجاز سياسي لها من خلال إسهامها بتخفيف الحصار عن قطاع غزة، ووصول مباحثات “تثبيت وقف إطلاق النار” غير المباشرة بين “إسرائيل” وحماس إلى طريق مسدود، الأمر الذي قد يجعل من أي اتفاق تركي – “إسرائيلي” مقدمة لتسوية إقليمية شاملة.
– تطور العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الطرفين منذ 2010 – بل منذ تسلم العدالة والتنمية الحكم عام 2002 – رغم الأزمة الدبلماسية بينهما، ورغبتهما في زيادة حجم التبادل التجاري بينهما، ومركزية المصالحة السياسية في هذا السياق.
من ناحية أخرى، لا زالت تقف أمام هذه المباحثات – كما سابقاتها – عدة عقبات، في مقدمتها:
– رفض دولة الاحتلال لرفع الحصار بشكل كامل عن قطاع غزة، باعتبار أنه سيكون عاملاً مساعداً لفصائل المقاومة هناك.
– تعذر تنازل تركيا عن شرط رفع الحصار تماماً، على الأقل لأنه سيسيء لسمعتها في المنطقة وبين الفلسطينيين خاصة، وسيحرجها أمام الرأي العام التركي في الداخل.
– المعارضة الشعبية في تركيا للاتفاق، فضلاً عن معارضة وقف الإغاثة الإنسانية (İ.H.H.) الذي سيَّر سفينة مافي مرمرة لتطبيع العلاقات بهذا الشكل، سيما وأن التسريبات الإعلامية تحدثت عن تعهد تركيا بوقف كافة القضايا المرفوعة ضد قادة “إسرائيليين” في تركيا.
– حملات التراشق الإعلامي بين الطرفين خلال فترة المقاطعة، والتي زادت من الفجوة بينهما، سيما على المستوى الشخصي بين اردوغان ونتنياهو.
– الإشارات الكثيرة والتصريحات التي صدرت عن تل أبيب فرحاً واستبشاراً بتراجع العدالة والتنمية في انتخابات حزيران/يونيو 2015 باعتباره تمهيداً لخسارة حركة حماس أحد داعميها الإقليميين.
– الاتهامات التركية لـ”إسرائيل” باستهداف تركيا، عبر الورقة الكردية في الداخل والشمال السوري، فضلاً عن التسريبات الحكومية بعلاقة خاصة تربط جماعة فتح الله كولن المتهمة بتأسيس تنظيم سري للسيطرة على الحكم في البلاد بتل أبيب.
– تراجع حاجة تركيا لـ”إسرائيل” في مجالات الصناعات الدفاعية واستيراد الأسلحة، بعد أن نوعت مصادر استيرادها للأسلحة، فضلاً عن قطعها أشواطاً مهمة – ما زال أمامها الكثير – في الصناعات المحلية في مجال السلاح.
– غياب إجماع “إسرائيلي” داخلي على ملف المصالحة مع تركيا، وصعوبة تسويق نتنياهو اتفاقاً مع أنقرة لشركائه في الائتلاف الحكومي اليميني.
– تكرر فشل جولات المباحثات السابقة، ونشوء حالة من عدم الثقة لدى الجانبين في نوايا الطرف الآخر.
– تحفظ مصر على التقارب بين “إسرائيل” وتركيا، وفق ما تسرب من أخبار في الإعلام “الإسرائيلي”، وعدم رغبة “تل أبيب” بخسارة القاهرة من أجل اتفاق غير مضمون الإبرام ثم العواقب مع أنقرة.
– مواقف تركيا من الثورات العربية وقضايا المنطقة التي لم تتغير في خطوطها العامة، وما زالت تتعارض مع رؤية ومصالح “تل أبيب”.
– تعرف “إسرائيل” أن أي اتفاق لإعادة العلاقات مع تركيا لا يضمن لها بالضرورة تحجيم العلاقة بين الأخيرة وحركة حماس، وأنها لا تقدر على إجبار أنقرة على ذلك، وهو شعور غذته بعض الرسائل المتضمنة في دعوة الأخيرة لرئيس المكتب السياسي لحماس خالد مشعل في ذروة الحديث عن المصالحة المرتقبة بين الطرفين.
توقعات 2016
لعدة أسباب، داخلية وإقليمية، فإن ما نرجحه للعلاقات التركية – الفلسطينية هو بقاء الحال على ما هو عليه، بمعنى استمرار الاهتمام التركي بالقضية الفلسطينية، سيما فيما يتعلق بمدينة القدس وملف حصار قطاع غزة، في حدوده الحالية السياسية – الإعلامية، دون تقدم أو تقهقر، خصوصاً وأن الفلسطينيين لا يملكون في المدى المنظور ما يقدمونه لأنقرة من اختراقات أو إنجازات تشجعها على الانخراط بفعالية في قضيتهم.
في المقابل، فإن الانتفاضة/الهبة الفلسطينية الحالية قد أعادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث مجدداً، وإن قدر لها الاستمرار والتصاعد يمكنها أن تكون عامل جمع لكلمة الأطراف الفلسطينية المختلفة، وباباً لدور تركي أنضط في القضية الفلسطينية، سيما إذا ما أفضت جولة المصالحة الحالية بين حركتي فتح وحماس إلى مخرجات إيجابية.
أما فيما يتعلق بملف التقارب التركي – “الإسرائيلي”، فبالنظر إلى كل ما سبق، قد يبدو أن الاحتمالات النظرية لشكل العلاقات الثنائية بين الجانبين عديدة ومتنوعة، بينما يمكن استبعاد بعض السيناريوهات بنظرة واقعية – عملية. فلا ترى هذه الورقة أن سيناريوهات مثل تطبيع العلاقات بين الطرفين بتقديم أحدهما تنازلاً كاملاً للآخر (كسر تام للحصار، أو تخل كامل عن هذا الشرط)، أو تأزم العلاقات بين الجانبين بشكل كبير يصل لدرجة انهيار المباحثات تماماً وعدم العودة إليها مطلقاً، أو بقاء الحال كما هو عليه بلا أفق للحل بين الطرفين، لا ترى أنها سيناريوهات وافرة الحظ عملياً. ولذا يقتصر هذا البحث على سيناريوهين اثنين ممكنـَي الحدوث ووافرَي الحظ واقعياً:
الأول، بلورة اتفاق ما بين الطرفين يجسر الهوة بينهما ويعيد العلاقات الدبلماسية إلى سابق عهدها، وهو السيناريو المرجح برأينا، بغض النظر عن تحققه قريباً أو على المدى المتوسط. وفق هذا السيناريو سيستطيع الوفدان المختصان من الطرفين الاتفاق على حل وسط بين كسر الحصار التام أو التخلي عنه بشكل كامل، لا يمس خطوط “إسرائيل” الحمراء المتعلقة باستفادة قوى المقاومة الفلسطينية من كسر الحصار ولكن أيضاً لا يحرم تركيا تماماً من تسويقه على أنه “كسر” أو “تخفيف” للحصار المفروض على القطاع منذ سنوات.
هذا الحل الوسط قد يكون ممراً بحرياً تركيا نحو قطاع غزة لإدخال المواد الأساسية (برقابة دولية ربما)، أو “وضع خاص” يعطى للسفن ومؤسسات المجتمع المدني التركية للدخول إلى غزة، فضلاً عن تسهيل إعادة الإعمار، وهو ما يعني أن الاتفاق سيكون مرضياً عنه مصرياً في الحد الأدنى، أو سيكون ضمن اتفاق إقليمي أوسع (يشمل تحسن العلاقات التركية – المصرية) في الحد الأقصى.
بيد أن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة عودة العلاقات التركية – “الإسرائيلية” إلى حالة التحالف الاستراتيجي التي عرفها الجانبان في تسعينات القرن الماضي. ذلك أن حجم المتغيرات على طرفي المعادلة كبير جداً، فلا تركيا اليوم هي تركيا الأمس ولا حاجتها لـ”إسرائيل” هي نفس الحاجة، ولا يمكن تصور عودة التعاون الاستخباري – مثلاً – بين الطرفين لحالة التبعية التي كانت تعاني منها تركيا سابقاً. الأرجح، في هذا السياق، هو عودة التمثيل الدبلماسي وتطور العلاقات الاقتصادية في قطاعي التجارة البينية والسياحة، والتعاون تحت أطر المنظمات الدولية – وخاصة حلف الناتو – في القضايا ذات الاهتمام المشترك، لكن باحتفاظ كل طرف برؤيته وأولوياته بل وهواجسه من الطرف الآخر.
أخيراً، لا يتوقع أن ينعكس هذا السيناريو بشكل كارثي على الطرف الفلسطيني، وخاصة حركة حماس. فالعلاقة بين تركيا والحركة ليست مبنية بشكل كامل على الخلاف التركي – “الإسرائيلي” ولذلك فليس من المتوقع أن تتبدل بنسبة 180 درجة لدى عودة العلاقات. فالعلاقات التركية – الفلسطينية والتركية – “الحمساوية” تسير وفق أطر ومحددات عدة، منها التاريخي والسياسي والديني والمبدئي والمصلحي، ولا يمكن لها أن تنقلب رأساً على عقب بمجرد عودة العلاقات بين الطرفين.
الثاني، فشل هذه الجولة من المحادثات بين الجانبين، في انتظار تطورات محلية و/أو إقليمية تعيد فتح الملف وتجلس الطرفين إلى الطاولة مرة أخرى في محاولة جديدة للتقارب، قد تكون أوفر حظاً من الجولة الحالية. هذا السيناريو الأقل حظاً من سابقه يعني أن العوامل المحفزة الكثيرة التي سبق ذكرها لم تكن كافية لتجاوز الجانبين العقبات الماثلة في الطريق، أو أن المهددات المشتركة لم تسعفهما لجسر أزمة الثقة بينهما، أو أن المشهد الداخلي على طرفي المعادلة ما زال أقوى من المحفزات الإقليمية.
وعليه، سيبقى الوضع – وفق هذا السيناريو – كما هو عليه الآن: استعداد مبدئي من الجانبين للتصالح، وإرادة متبادلة بإنهاء القطيعة، وشروط تركية ماثلة وإن بدت اليوم أكثر مرونة من ذي قبل، وتشوف “إسرائيلي” لأي حل يمكن تسويقه في الداخل على أنه لم “يكسر” الحصار عن “القطاع المتمرد” الذي يؤوي “المخربين”.
بيد أن فشل هذه الجولة لا يعني أن الجانبين سيعودان لنقطة الصفر مرة أخرى، فالسياقات المذكورة آنفاً، إضافة لاتفاق الطرفين على النقاط المتعلقة بهما – حصار غزة يخص طرفاً ثالثاً في نهاية المطاف – حتى الآن، فضلاً عن ثبات بل وتطور عدد من المخاطر المشتركة، كلها عوامل تعني أن التعاون في الحد الأدنى بينهما سيظل قائماً بغض النظر عن التمثيل الدبلماسي بينهما، دون أن ننسى أن العلاقات الاقتصادية في نمو مستمر ويتوقع أن تزداد سرعة نموها بعد الأجواء الإيجابية التي عكسها الطرفان.
أخيراً، ومن جهة أخرى، فإن تأجيل إبرام الاتفاق بسبب فشل هذه الجولة من المباحثات لا يعني أيضاً بالضرورة أن تجاوز أنقرة لبعض الخطوط والسقوف في علاقاتها الفلسطينية و”الحمساوية” سيستمر بنفس الشكل والوتيرة، ولا أن “الامتيازات” التي حصلت عليها حماس تحديداً غير قابلة للتراجع. فرغبة الطرفين في تحسين العلاقات تتطلب إجراءات بناء ثقة من الجانبين، وليس أنسب من العلاقة مع حماس لتكون عنوان هذه الإجراءات بالنسبة للطرف التركي، فضلاً عن أن العلاقة مع الأخيرة تستجلب ضغوطاً على أنقرة من حلفائها الآخرين وفي مقدمتهم الولايات المتحدة، دون أن نغفل أن بعض هذه “الإجراءات” قد تم بالفعل على مدى الشهور السابقة إما كمبادرة من طرف حماس أو على شكل “رجاء” وتنسيق بين أنقرة والحركة، ومن ذلك مغادرة بعض قياداتها الأراضي التركية بعيد انتخابات حزيران/يونيو 2015.
خاتمة
بعد أكثر من خمس سنوات من القطيعة الدبلماسية بين تركيا و”إسرائيل”، يبدو الطرفان أقرب من أي وقت مضى لجسر هوة العلاقات بينهما وإعادتها لوضعها الطبيعي، تأثراً بعوامل وسياقات عدة محلية وإقليمية.
الأجواء الإيجابية التي عبر عنها الطرفان، وخاصة التركي، تعكس بالضرورة التقدم الحاصل في هذه المباحثات بنفس القدر الذي تعكس فيه رغبة الجانبين وحاجتهما لهذا التقارب.
ولئن رجحت هذه الورقة سيناريو تطبيع العلاقات وعودة التمثيل الدبلماسي بينهما، إلا أن كم المتغيرات خاصة لدى الطرف التركي لا ينبئ بتحالف استراتيجي قديم متجدد بينهما بقدر ما يخدم اتفاق الضرورة في ظل الظروف المستجدة. كما أن عدم اتفاق الطرفين على كامل تفاصيل الاتفاق لا يعني بأنه غير وارد أو وشيك، بقدر ما يعني أنه يحتاج لمزيد من الإنضاج على نار المتغيرات على جانبي طاولة التفاوض.
وبكل الأحوال، أشَهدنا اتفاقاً يعيد العلاقات بين الطرفين أم تأجل ذلك إلى حين، فإن حداً أدنى من التعاون لا شك موجود بفعل انضواء الطرفين تحت نفس المظلة في بعض الملفات الإقليمية، وهو ما يعني مرة أخرى أن تركيا 2016 ليست أبداً تركيا 2011، وقد دخلت فعلاً في مرحلة إعادة النظر والتقييم لسياساتها الخارجية وبدأت استدارة ملحوظة في عدد من ملفاتها، ووحدها الشهور القادمة كفيلة بإظهار مدى هذه الاستدارة ومقدار اشتباكها مع القضية الفلسطينية و”إسرائيل” وما بينهما.
ملحوظة:
للمزيد حول العلاقات التركية – الفلسطينية والتركية – “الإسرائيلية”، يمكن الإطلاع على أوراق الباحث في مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، على موقعه على الشبكة العنكبوتية، وهي:
1- تركيا والقضية الفلسطينية بعد الانتخابات البرلمانية، تشرين الثاني/نوفمبر 2015.
2- تطبيع العلاقات التركية – “الإسرائيلية”، الفرص – السيناريوهات – الانعكاسات، شباط/فبراير 2016.
3- ورقة “تركيا والقضية الفلسطينية” في محور “العالم الإسلامي” من التقرير الاستراتيجي الفلسطيني 2014 – 2015 لدى نشره.