تركيا والقدس: بين الخطاب والممارسة

 

تركيا والقدس: بين الخطاب والممارسة

 

عربي 21

تصدرت تركيا بشكل ملحوظ وعلى مدى الأسابيع الماضية حملة الاحتجاجات الرسمية على قرار الرئيس الامريكي دونالد ترامب اعتبار القدس عاصمة للكيان الصهيوني، لما تفترضه لنفسها من مسؤولية تاريخية عن القدس لأن الدولة العثمانية كانت آخر دولة ذات سيادة عليها قبل الاحتلال، وأيضاً لكونها الرئيس الدوري الحالي لمنظمة التعاون الإسلامي.

دعت أنقرة لاجتماع طارئ للمنظمة، واتصل الرئيس التركي بعدة رؤساء وقادة من ذوي العلاقة بالموضوع مثل رؤساء كل من روسيا وفرنسا وألمانيا إضافة للرئيس الفلسطيني والعاهل الأردني وبابا الفاتيكان، واستقبل محمود عباس والملك عبدالله الثاني، كما بذلت تركيا دوراً واضحاً في مسار مجلس الأمن ثم الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي طار لها وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي رفقة نظيره التركي مولود تشاووش أوغلو وعلى نفس الطائرة بعد مؤتمر صحافي مشترك في إسطنبول.

رسمت أنقرة منذ البداية منطلقها وحدودها بأن “القدس خط أحمر”، وحدد اردوغان ثلاث مسارات للرد على قرار ترمب، هي الدعوة لاجتماع منظمة التعاون وحشد الشارع الإسلامي ضد القرار والتهديد باحتمالية قطع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل”. لكن سقف الخطاب التركي كان أعلى بكثير من المخرجات العملية في الممارسة السياسية، خصوصاً قرارات قمة منظمة التعاون الإسلامي وقرار الجمعية العامة.

هذا السقف المرتفع قوبل باستحسان واسع في العالم العربي، لكنه أيضاً أثار الكثير من التخوفات وبعض النقد أو الهجوم على أنقرة. تخوفات بأن يكون خطاباً على هامش الفعل أو بديلاً عنه وليس مقدمة له، وهجوم ذكـــَّر بالخطوط التركية الحمراء في حماة أو حلب سابقاً. والأمر كذلك، فلا مناص من محاولة البحث في الأمر، إيجاباً وسلباً.

فمن جهة، لا شك أن سقف الخطاب المرتفع جداً عن واقع الفعل وبمفرداته المستخدمة يرفع كثيراً من مستوى التوقعات والطموح من تركيا في الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي، وهو ما ينقلب في العادة إلى خيبة أمل من عدم تحقق تلك التوقعات وذلك الطموح المنتظر من أنقرة.

يزيد من هذا الأثر السلبي أن مخرجات قمة منظمة التعاون الإسلامي لم تكن أبداً على مستوى الحدث وخطورته، وأزعم أنها لا تلبي أبداً الحد الأدنى من مطالب الشعوب عبر قرارات تعترف بـ”القدس الشرقية” عاصمة لدولة فلسطين، بل لعل ذلك مما يزعج لما يحمله من إشارات تتعلق بـ”القدس الغربية” والاعتراف بدولة الكيان وما يتبع ذلك، إذ أنه من المعروف والمؤكــَّد عليه أنهم لا يعترفون ولا يقبلون بتقسيم القدس بل هي واحد موحدة بشرقيها وغربيها. يضاف إلى ذلك عدم إقدام تركيا – ولا أي دولة أخرى – حتى الآن على أي خطوة مباشرة تجاه الإدارة الأمريكية لا دبلوماسياً ولا سياسياً ولا اقتصادياً للتعبير بشكل حقيقي ومباشر عن رفض القرار الأمريكي ومحاولة التأثير عليه.

وهناك من رأى أن توتر العلاقات التركية – الأمريكية في الآونة الأخيرة ساهم في رفع حدة النبرة التركية في هذه الأزمة، وذلك صحيح طبعاً ولعله من أبجديات العلاقات الدولية، فمقاربة أي حدث أو أزمة تتأثر بطبيعة الحال بعلاقات أي جهة مع أطراف الأزمة وفواعلها. كما رأى البعض بأن اردوغان والعدالة والتنمية قد استفادا داخلياً من خطابهما إزاء القدس، وذلك صحيح وليس فيه ما يعيب، فالقضايا الحساسة والمهمة رافعة وخافضة لمختلف الدول والفواعل حسب مواقفها.

من هذه الزاوية، يبدو العتب على الخطاب التركي متفهماً وفي مكانه باعتبار حسن الظن بأنقرة وصانعي القرار فيها وانتظار الكثير والمزيد منهم للقدس والقضية الفلسطينية. ولكن، في المقابل، ثمة إيجابيات عديدة لهذا الخطاب هذه أهمها:

أولاً، لم يغب الفعل تماماً عن الموقف التركي، فعقد قمة منظمة التعاون خلال أسبوع والتحرك في الساحة الدولية على مستوى مجلس الأمن والجمعية العامة جهد سياسي ودبلوماسي كان لتركيا جهد واضح فيه بغض النظر عن تقييمنا للمخرجات، فضلاً طبعاً عن حركة الشارع التركي اللافتة والحاشدة والتي شارك السياسيون فيها بشكل ملحوظ. فالنقد هنا ينبغي أن يدور حول سقف الفعل لا ادعاء غيابه.

ثانياً، مخرجات قمة منظمة التعاون جماعية وليس فردية وتؤخذ بالتوافق، وبالتالي فمن الصعب محاسبة كل دولة بعينها – هنا تركيا – عليها. وبالتالي تحاسب كل دولة وفق قراراتها الذاتية الفردية وليس مخرجات القمة الجماعية التي تعبر عادة عن الحد الأدنى للتوافق. ربما من المهم هنا الإشارة لضرورة عدم المبالغة في مخرجات القمة واعتبار قراراتها “تاريخية”، فيما هي تحمل “رمزية” سياسية فقط في مواجهة قرار ترمب.

ثالثاً، لا يمكن التقليل من أهمية الخطاب بمفرده حتى في ظل انخفاض سقف الفعل، فالخطاب جزء من السياسة وله دلالاته وتأثيراته وليس منبتاً عن الفعل. وبالتالي فحدَّة الخطاب التركي هنا إيجابية من إحدى زوايا النظر، ولعلها استثارت ردود فعل “إسرائيلية” أكثر من غيرها من تصريحات الدول الأخرى. ومن المفيد هنا النظر لمفردات الخطاب التي لم تكتف بالرد على ترمب أو تحذيره من آثار قراره على “عملية السلام”، وإنما تخطت ذلك لمهاجمة الكيان الصهيوني نفسه ونعته أكثر من مرة ومن قمة الهرم السياسي التركي بأنه “دولة احتلال ودولة إرهاب”، وهذا خطاب لا يمكن التهوين منه بحال من الأحوال.

رابعاً، لعب سقف الخطاب التركي دوراً إيجابياً في إحراج بعض الدول الأخرى ولو ضمناً ورفع سقف خطابها أو موقفها هي أيضاً، إما اقتناعاً أو تقليداً أو حتى غيرة وغضباً من الدور التركي في هذه القضية.

خامساً، لا يمكن التقليل من الأثر الإيجابي لخطاب اردوغان تحديداً في وعي الشعب التركي بالقضية الفلسطينية، سيما في شرحه لمراحل احتلال فلسطين بالصور والخرائط. هذا الجهد – رغم بعض الدبلوماسية الاضطرارية فيه – مهم جداً لنقل العاطفة التركية الجياشة والمشكورة مع القضية الفلسطينية لأبعاد أعمق وعياً وأطول مدى وأكثر تأثيراً، وهذا دور بارز للرئيس التركي بما له من منصب وتأثير وكاريزما ومكانة لدة اطياف واسعة من الشعب.

أخيراً، وفي المحصلة، لا شك بأن سقف الخطاب التركي في قضية القدس كان أعلى بكثير من مستوى الفعل والقرار الأمر الذي أثار بعض التحفظات والتخوفات والنقد، وهي مشروعة بطبيعة الحال لخطورة الحدث وارتفاع سقف التوقعات من تركيا سواءً بسواء. الأمر الذي يدفع لحث أنقرة على سقف فعل أعلى، ولكن ليس على قاعدة نكران الفعل من الأصل أو التهوين تماماً بأهمية الخطاب القائمة بذاتها.

الجهد التركي مشكور ومقدَّر، ولكن ما زال مطلوباً من تركيا وقيادتها الكثير من الفعل على مستوى العلاقات مع دولة الاحتلال ومع الولايات المتحدة الأمريكية، سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً، حمايةً للقدس وتقوية للدور التركي في قضيتها وحرصاً على مصداقية أنقرة واستثماراً لأوراق وقتها وتناغماً مع سقف التوقعات الفلسطينية والعربية والإسلامية منها وحثاً للدول الأخرى على خطوات مشابهة.

إن تركيا قادرة على اتخاذ مواقف أعلى سقفاً من المواقف الحالية وبعيداً عن بيروقراطية وجماعية منظمة التعاون الإسلامي، إن كان على صعيد قطع العلاقات مع دولة الاحتلال (وهو مطلب طيف مهم من الشعب التركي أيضاً)، أو على صعيد الإجراءات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة مثل استدعاء السفير التركي للتشاور أو تسليم سفير واشنطن مذكرة احتجاج بالحد الأدنى، ثم التدرج لما هو أعلى وفق التعاملات الدبلوماسية، وهو – للأسف – ما لم تقم به أي دولة عربية أو إسلامية حتى الآن.

تستطيع أنقرة ذلك، ومنتظر منها أن تفعل ذلك، وأرجو ان تكون تصريحات الرئيس التركي مؤخراً عن خطط بديلة وخطوات تركية قادمة تصب في هذا الاتجاه، فالقدس والقضية الفلسطينية تستحقان بذل كل الجهود من جميع الأطراف، خصوصاً تركيا بمكانتها ومسؤولياتها ودورها في القضية الفلسطينية وتمثيلها للشعب التركي الشقيق.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

ماذا بعد تصويت الأمم المتحدة؟

المقالة التالية

تركيا: محاولات التنظيم الموازي لتبرئة نفسه

المنشورات ذات الصلة