تركيا والعرب ومعركة المطار

كان من المؤسف حقاً أن نتابع كل هذا التراشق والشتائم المتبادلة بين مغردين عرب وأتراك قبل أيام بسبب ادعاءات “ضرب” سيدة سعودية في مطار أتاتورك في إسطنبول، وأسوأ من ذلك تلك الحسابات الوهمية – التي تتبع لأجهزة استخبارات وفق هؤلاء المغردين – التي صبت الزيت على نار الخلاف وحاولت تضخيمه.

ولست هنا في وارد مناقشة الحدث نفسه ومدى صحته، بعد أن تحدثت حوله القنصلية السعودية في تركيا وبعض المسؤولين الحكوميين هنا، لكنني سأسمح لنفسي باقتناص الحدث لطرق موضوع أعم وأشمل على هامشه، وهو صعوبة التعامل التركي مع الأجانب (الضيوف كما يحب الأشقاء الأتراك تسميتهم) في أهم واجهتين لتركيا معهم: المطار ومديرية الأمن العام حيث تعطى أذونات الإقامة.

ومن البديهي أن أؤكد ابتداءً أن كل بلد فيها الحسن والقبيح، وأن التصرفات الفردية لا تـُسحب على الدول والمجتمعات، وأن تعاملاً ما مع مواطن إحدى الدول لا يمكن اعتباره موقفاً محدداً من تلك الدولة، اللهم إلا إن تحول إلى ظاهرة واضحة.

كما لن أفوت الفرصة للتأكيد أن التعامل في الدوائر الرسمية مع الأجانب/الضيوف تطور في تركيا وقفز قفزات نوعية وملحوظة خلال السنوات الأخيرة (سنوات حكم العدالة والتنمية للإنصاف) بما لا يمكن مقارنته مع السنوات السابقة، التي كان يلومنا فيها موظف الأمن العام التركي على عدم إتقاننا للغة التركية بعد أسبوع واحد فقط من دخولنا البلاد، بدل أن يتقن هو اللغة الانكليزية على الأقل،  ونحن في “فرع الأجانب” في دائرة الأمن، التي يفترض أن كل “زبائنها” من غير الأتراك.!!

لكن الإشكالات التي يتعرض لها الأجانب في تركيا تحت عنواني “اللغة” و”التعامل” – رغم كل ما سبق من تأكيدات وبديهيات – تكاد تعتبر ظاهرة بعد أن وصلت الشكاوى حد “التواتر”. صحيح أن التجارب الشخصية ليست مقياساً علمياً للحكم على الظاهرة، إلا أنه يمكن الاستئناس بها برأيي للاستدلال، وليس للتعميم.

شخصياً، أعتقد أن للأمر عدة أسباب وعوامل ذاتية، إضافة إلى ما يولده العمل نفسه والاحتكاك بذاته من إشكالات طبيعية في كل البلدان، أهمها:

أولاً، الانغلاق السابق، إذ لا يخفى على المتابعين حالة إدارة الظهر للشرق الأوسط والعالم العربي في تركيا على مدى عشرات السنوات، إضافة لحالة من الانغلاق على الذات في مواجهة “الآخر” بشكل عام، نرى تجلياتها في بعض التصرفات والأقوال والعادات والتقاليد أحياناً، فمن الطريف أن أحد أشهر الأمثلة التركية هو “لا صديق للتركي سوى التركي”. ومن المعروف طبعاً أن الظواهر الاجتماعية التي تتشكل على مدى زمني طويل لا تتغير بسرعة، ولذلك لا زالت مستويات التغيير في تركيا بحاجة للمزيد.

ثانياً، بيروقراطية المؤسسات الحكومية، حيث يبدو لنا الأمر – نحن الناظرين من الخارج – أبسط من ذلك، ويمكن حله بتعيين موظفين يتقنون لغات أجنبية، بينما لا يوجد فارق كبير – وفق متابعتي غير المتعمقة – بين موظفي المطار وموظفي المؤسسات الحكومية الأخرى. ربما بسبب غياب هذه الرؤية أو عدم التفكير بتعليم هؤلاء الموظفين تحديداً للغات أجنبية، فضلاً عن أن يتم اختيارهم مسبقاً بناء على هذه المعايير، ولربما كان البند المالي في التوظيف سبباً رئيساً لذلك، فمن البديهي أن يكون راتب الموظف المؤهل بلغات أجنبية أعلى من راتب الموظف العادي، بينما لِمَ سيفضل الأول أن يعمل في المطار بنفس راتب الثاني، بينما ستتاح له فرص أفضل في أماكن أخرى بناءً على مؤهلاته؟؟!.

ثالثاً، الحالة الاقتصادية المتراجعة، وهي حالة مستجدة على كل حال في تركيا وليست بالأزمة العميقة كما قد يتوقع البعض، لذلك لا أعتقد أنها محورية في ظاهرة كهذه، لكن لا شك أن أي إنسان سيتصرف بهدوء وابتسامة وصفاء نفس طالما كان مطمئناً ومستقراً نفسياً ومادياً، والعكس بالعكس.

رابعاً، العامل النفسي، إذ يمكن توقع تعامل بعض الناس أحياناً بفظاظة كنوع من التغطية على نقص/تقصير لديهم، وهو ما يسمونه في الطب النفسي آليات الدفاع (defence mechanisms). بمعنى أن عدم إتقان موظف/عامل ما للغة التواصل مع المسافر/الضيف قد يسبب لديه حرجاً أو ضيقاً نفسياً يخرج على شكل تعامل فظ لديه، بينما سيخرج على شكل لباقة وتودد لدى موظف آخر. وقد يكون من المناسب أن نضيف إلى هذا البند العامل النفسي المتشكل لدى بعض قطاعات الشعب التركي ضد الأجانب بفعل تفاقم أزمة اللاجئين السوريين – لعدة أسباب أهمها إثارة بعض التيارات السياسية والإعلامية للأمر وتضخمها له – مما قد ينعكس على الأجانب من جنسيات أخرى.

خامساً، التراجع منظومة مترابطة، وهو بعد فكري – فلسفي نوعاً ما، لكنني أراه الأهم والأعظم تأثيراً في هذا السياق، وأنا هنا أكتبه أخيراً لكن ليس آخراً كما يقولون، وله شقان:

الأول تركي، له علاقة بحالة عدم الاستقرار وتباطؤ التنمية (وليس توقفها) منذ 2009-2010 (وفق الكثير من المحللين الاقتصاديين)، وهو ما ينعكس لا شعورياً على مرافق كثيرة وملفات عدة، بدون قصد.

والثاني أجنبي، يتعلق بنظرتنا نحن الضيوف إلى تركيا من الخارج، وفي هذا الإطار أشير إلى أن الشكاوى والإشكالات تزايدت بشكل ملحوظ بعد الربيع العربي والثورة/الأزمة السورية تحديداً، وهو تاريخ بداية الاستقطاب الحاد في المنطقة. أعتقد أنه كان للأتراك أخطاؤهم قبل هذا المنعطف، لكن معظمنا لم يكن يراها بسبب أضواء التجربة التركية التي ذهلت الأعين والقلوب – استحقاقاً أو مبالغة – بينما تضخـَّمُ الآن أخطاء وإشكالات أقل أهمية، إثر تراجع هذه الأضواء بفعل ضيق البعض من الموقف التركي بخصوص سوريا تحديداً. لقد كان صعود أسهم تركيا في المنطقة ساتراً لكثير من العيوب، بينما وضع الخلاف معها الآن بعض الأخطاء تحت المجهر بصورة أكبر من ذي قبل، وهو مصداق البيت الشعري

عين الرضى عن كل عيب كليلة .. ولكن عين السخط تبدي المساويا

 

أخيراً، لستُ مع الرأي القائل بأن الأخطاء والإشكالات مركزة على العرب دون غيرهم لأسباب عرقية أو عنصرية أو تاريخية، بل أراها عامة وتشمل الجميع، لكن لربما رأيناها أوضح معنا بسبب أن دوائر معارفنا عربية، أو بسبب الإقبال العربي الكثيف على تركيا مؤخراً، وهو ما يدفعنا لطرح السؤال الأهم في هذا الإطار: إذا كان هذا هو حجم الإقبال والاهتمام والسياحة في تركيا ظل هذه المنغصات، فكيف يمكن أن تكون الحال عليه إذا ما تم تجاوزها وحلها؟؟!

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

الطريق إلى الانتخابات المبكرة في تركيا

المقالة التالية

الانتخابات المبكرة في تركيا .. مشكلة أم حل؟

المنشورات ذات الصلة