تركيا والسعودية: ماذا بعد زيارة أردوغان؟
الجزيرة نت
أجرى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يومي 28 – 29 نيسان/أبريل الفائت زيارة مهمة للمملكة العربية السعودية، حيث جاءت بعد حالة من شبه القطيعة بن الدولتين في السنوات القليلة الأخيرة.
الزيارة، التي أتت في ظل مسار تقارب تركي مع عدد من الأطراف الإقليمية، وضعت في سياق خدمة العلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين ولكنها طرحت أسئلة أكثر حول مستقبل العلاقات بين البلدين وانعكاساتها على كليهما وعلى المنطقة.
القطيعة والتواصل
تاريخياً وعلى مدى عقود، لم تكن العلاقات بين الجمهورية التركية والمملكة العربية السعودية في أفضل حالاتها، لأسباب تاريخية وثقافية وكذلك جيوسياسية، من بينها الاختلافات الكبيرة في بنية الدولة ونظام الحكم وعلاقة الدين بالدولة والاصطفافات الإقليمية وغيرها من الأسباب.
تغير ذلك نسبياً مع العدالة والتنمية في تركيا، ودشنت زيارة الملك الراحل عبدالله بن عبدالعزيز في 2006 لتركيا مرحلة جديدة بين البلدين، إلا أن ثورات الربيع العربي وما تلاها من أحداث وفي مقدمتها الانقلاب في مصر أعادت الفتور وعمقت الخلاف مجدداً بينهما ووضعتهما في طرفَيْ نقيض في معادلة الاستقطاب الإقليمية بل وأحياناً في مواجهة غير معلنة وغير مباشرة في عدد من قضايا وملفات المنطقة.
أضيف لهذا العامل الرئيس سببان إضافيان في السنوات القليلة الأخيرة، أولهما الأزمة الخليجية التي وقفت فيها تركيا مع قطر سياسياً واقتصادياً وإن لم يكن ذلك بمواجهة حادة مع السعودية، رغم أن الأخيرة رأت ذلك اصطفافاً وتدخلاً ضدها.
وثانيهما قضية قتل الإعلامي السعودي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول، حيث أصرت تركيا لسنوات على كشف ملابساتها ومحاسبة كل المتورطين بها، وهو ما عدته الرياض تشهيراً بها واستهدافاً لها، رغم أن أردوغان نفسه نفى في أكثر من تصريح أن يكون موقف بلاده موجهاً ضد السعودية كدولة أو كشعب بل إنه ذكر في بعض تصريحاته ثقته بالأسرة المالكة في السعودية والملك سلمان على وجه التحديد.
اليوم، يمكن القول إن الملفات الثلاثة قد تراجعت بشكل ملحوظ. فالربيع العربي وتداعياته أصبحا خلف ظهر القوى الإقليمية، والأزمة الخليجية انتهت على الأقل رسمياً مع قمة العلا، وقضية خاشقجي أعادتها أنقرة مؤخراً للقضاء السعودي بعد أن كانت أعلنت السنة الماضية تأييدها للأحكام التي صدرت في الرياض ضد المتهمين.
كما أن زيارة أردوغان تأتي في سياق تقارب بلاده أو بالحد الأدنى تواصلها مع عدد من خصومها خلال السنوات الماضية وفي مقدمتهم الإمارات ومصر و”إسرائيل” وأرمينيا واليونان. وهو مسار مدفوع بعدد من الأسباب والتطورات الدولية والإقليمية والمحلية، مثل الإدارة الأمريكية الجديدة وتوجهاتها بخصوص المنطقة وحلفائها فيها، والاتفاق المحتمل بين إيران والمجتمع الدولي بخصوص مشروعها النووي، وتداعيات جائحة كورونا ثم الحرب الروسية على أوكرانيا على اقتصادات المنطقة والعالم، وأخيراً الانتخابات المفصلية التي تنتظرها تركيا في حزيران/يونيو 2023.
ما بعد الزيارة
خاضت تركيا مع مصر عدة جولات من الحوار تخللتها بعض الإجراءات والقرارات التي صنفت ضمن إجراءات إثبات حسن النوايا، وزار ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد أنقرة قبل أن يزور أردوغان الإمارات، واستقبل أردوغان الرئيس “الإسرائيلي” إسحاق هرتسوغ ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس متسوتاكيس، لكن زيارة على هذا المستوى مع السعودية تأخرت.
في كانون الثاني/يناير الفائت، قال أردوغان إنه بصدد زيارة السعودية في الشهر التالي دون أن يحصل ذلك، ما أوحى بأن الظروف لم تتهيأ بعد لإتمامها، أو أن السعودية لديها شروط مسبقة. إغلاق أنقرة قضية الإعلامي خاشقجي أوحت بأن الزيارة باتت وشيكة، بغض النظر أكان الأمر تلبية لشرط سعودي أو مبادرة تركية ذاتية.
اللافت كان أن السعودية بقيت الأخيرة في مجموعة التحالف الخليجي – المصري تقارباً مع تركيا أو على الأقل التقاءً بمسؤوليها، وهو ما يرجعه البعض لسياستها المحافظة من جهة ورغبتها في الانتظار وفحص المسار من جهة ثانية. يضاف لذلك أن الإعلان عن الزيارة أتى من الطرف التركي حصراً، ولم تحتف وسائل الإعلام السعودية بها أو تتناولها بتوسع إلا لاحقاً على عكس الإعلام التركي، بل إن قناة “الإخبارية” السعودية حصرت على تصدير خبر أن الزيارة جاءت “تلبية لرغبة” الرئيس التركي وليس “تلبية لدعوة” الملك سلمان كما قال الأخير.
تظهر هذه الإشارات أن أنقرة كانت أكثر حماسة للزيارة من الرياض، وأن الزيارة لم تتم في أفضل الظروف بالضرورة، وأن الملفات الخلافية أو العالقة بين البلدين من الصعب تجاوزها بمجرد إتمام الزيارة، على أهميتها ودلالاتها التي لا تخفى. ولذلك فالسؤال الأهم هو عن المستقبل لا الماضي.
الاقتصاد هو العنوان الأبرز للزيارة والمستهدف الأهم منها وفق المعلن. فقد قال أردوغان إنه يأمل بأن تفتح الزيارة صفحة جديدة في علاقات البلدين وأن تساهم في تطوير العلاقات التجارية والاقتصادية بينهما، كما ذكر أن الجانبين اتفقا على “إعادة تفعيل إمكانات اقتصادية كبيرة مع المنظمات التي ستجمع مستثمرينا مع المملكة العربية السعودية”.
بيد أنه من المهم الإشارة إلى أن الملف الاقتصادي ليس مستقلاً وقائماً بذاته، وإنما تابع للسياق السياسي، إذ لا يمكن تطوير العلاقات الاقتصادية والاستفادة تجارياً دون قرار سياسي وكذلك بلا تهدئة سياسية. ولذلك يمكن القول إن الهدف التركي الأبرز في المرحلة الحالية هو تدوير زوايا الخلاف مع “الخصوم” ونقلهم لمساحة “الأصدقاء” وفق التصريحات الرسمية، بما يقلل من تحديات السياسة الخارجية ويخفف من الضغوط على تركيا ويخلخل التحالفات المواجهة لها في المنطقة.
كما أنه ليس من المنتظر أن يكون تطوير العلاقات التجارية مع السعودية وباقي الأطراف الحل الناجع والنهائي لمشاكل الاقتصاد التركي، وإن كانت الاستثمارات المباشرة تفيد في عدة مجالات من بينهما المساهمة في تقوية الليرة من خلال توفير العملات الصعبة.
الاقتضاب الواضح في التصريحات التي تلت الزيارة تشي بأن ما أنجز خلالها قد لا يكون كبيراً، ما يلقي بظلال من الغموض حول المسارات المستقبلية، لكن ذلك لا يقلل من شأن الزيارة ولا حجم الاختراق المتمثل بها على صعيد العلاقات. ذلك أن عدد الملفات الخلافية وحجمها يرجحان ألا يكون مسار التقارب بين البلدين سريعاً، بشكل مشابه لمسار الحوار بين أنقرة والقاهرة.
إحدى أهم الإشارات على الآفاق المستقبلية للعلاقات بين البلدين بعد الزيارة المهمة هو حصول زيارة سعودية رفيعة لأنقرة من عدمها، وتوقيتها، والإشارات والتصريحات التي ستسبقها وتصاحبها. زيارة من هذا القبيل تبدو مرجحة في ظل رفع السعودية الحظر الذي كان مفروضاً على البضائع التركية بشكل غير رسمي، وفق وسائل إعلام تركية، وكذلك رفع تركيا الحظر عن وسائل إعلام سعودية وإماراتية خلال الشهور الفائتة.
لكن السؤال الأخير، والأهم، الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو ما إذا كانت السعودية وباقي الأطراف الإقليمية حريصة على المسارعة في ترميم العلاقات مع أنقرة وتطوير التجارة البينية معها الآن، أم إنها تقدم على خطوات أولية فقط وستبقى بانتظار نتائج الانتخابات التركية المقبلة أو على أقل تقدير إرهاصاتها الأولية وحملاتها الانتخابية لتقرر خطواتها اللاحقة، وهو سؤال برسم الشهور المقبلة.