تركيا والرئاسيات الأمريكية: تحديات أعقد من اسم الرئيس
عربي 21
تجرى في الثالث من تشرين الثاني/نوفمبر الحالي الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التي يتنافس فيها الرئيس الحالي دونالد ترمب ومرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن. ولعدة أسباب في مقدمتها شخص ترمب وسياساته، تبدو هذه المحطة استثنائية وتحظى باهتمام غير مسبوق داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها.
ومن البديهي أن العديد من الدول تراقب عن كثب وباهتمام بالغ الحملات الانتخابية وما يمكن أن يفرزه صندوق الانتخابات، لما لاسم الرئيس القادم ورؤيته وسياساته من تأثير عليها، وفي مقدمة هؤلاء تركيا.
فالعلاقات التركية – الأمريكية ليست على ما يرام مؤخراً، وبات يغلب عليها في السنوات الأخيرة التوتر والتأزم. على أرضية مضطربة سمتها العام تراجع مستوى الثقة بين الشريكَيْن الاستراتيجيَّيْن، تقف ملفات عالقة ومواقف متعارضة ومصالح متناقضة بين الجانبين جعلت أنقرة في بعض المحطات أقرب لخصمها التقليدي موسكو منها لحليفها التقليدي واشنطن.
ثمة ملفان رئيسان يثيران حفيظة تركيا على الولايات المتحدة إضافة لقضايا أخرى أقل أهمية: الدعم الأمريكي للميليشيات الكردية الانفصالية في الشمال السوري بسبب علاقتها بمنظمة حزب العمال الكردستاني، واستضافة فتح الله كولن المتهم بتنفيذ الانقلاب الفاشل في 2016 وعدم تسليمه ولا حتى إتاحة التحقيق معه.
في المقابل، فواشنطن ليست راضية عن توجهات السياسة الخارجية التركية في السنوات الأخيرة، وخصوصاً التقارب مع روسيا وبدرجة أقل التوتر مع حلفاء واشنطن مثل الكيان الصهيوني والمملكة العربية السعودية. العلاقات المتنامية مع روسيا، والتي وصلت حد تنفيذ مشاريع طاقة عملاقة وشراء منظومة إس400 الدفاعية، أوصلت واشنطن وأنقرة إلى حدود القطيعة، مع تهديدات بفرض عقوبات على الأخيرة في إطار قانون كاتسا (مكافحة أعداء أمريكا من خلال العقوبات).
لكن ترمب، وخصوصاً بسبب العلاقة الشخصية التي ربطته بنظيره التركي، فرمل مسار العقوبات على أنقرة، وأمكنه التنسيق معها في أكثر من محطة، وخصوصاً فيما يتعلق بالملف السوري، فضلاً عن أنه أعطى الحق لتركيا بخصوص شراء المنظومة الروسية محملاً إدارة أوباما مسؤولية ذلك. في المقابل، فالسيرة الذاتية لبايدن لا تبدو مشجعة لأنقرة.
فالأخير معروف بقربه الشديد من اللوبي اليوناني في الولايات المتحدة الأمريكية، ويدعم اليونان في خلافها مع تركيا في شرق المتوسط، وكان له موقف حاد من اردوغان في لقاء صحافي أجري معه نهاية العام الفائت وتناولته وسائل الإعلام التركية مؤخراً، يتحدث فيه عن ضرورة دعم بلاده للمعارضة التركية لـ”للإطاحة” باردوغان، الذي وصفه بـ”المستبد” الذي عليه أن “يدفع الثمن”.
ولا تقف تصريحات بايدن بخصوص تركيا عند هذا الحد، فقد كان ضد قرار إعادة آياصوفيا مسجداً، واتهم أنقرة بإثارة التوتر في شرق المتوسط وتأجيج النزاع في القوقاز، وأعلن عن نيته “تدفيعها ثمن” شرائها منظومة إس400 من روسيا.
وعليه، يبدو من كل ما سبق أن أنقرة تفضل بقاء ترمب في البيت الأبيض، وأن وصول بايدن للرئاسة – وفق ما تشير استطلاعات الرأي – ينذر بأزمة متوقعة للعلاقات بين البلدين. حسناً، يبدو ذلك صحيحاً إلى حد كبير، لكنه ليس دقيقاً بالكامل.
صحيح أن علاقات تركيا بالرؤساء الجمهوريين أفضل منها تقليدياً بالديمقراطيين، وصحيح أن التواصل المباشر بين اردوغان وترمب أفاد تركيا في بعض المحطات، لكن الأخير تمتع دائماً بشخصية متأرجحة وقرارات غير متوقعة. فهو نفسه الذي هدد بـ”تدمير اقتصاد تركيا” إن تخطت حدوداً معينة في الشمال السوري، وهو الذي فرض عقوبات عليها بسبب القس برونسون، وهو الذي أرسل رسالة لاردوغان افتقدت لأبسط معايير اللباقة والدبلوماسية.
أكثر من ذلك، فقد شهدت الشهور الأخيرة – في ظل ترمب – مؤشرات عديدة على تراجع العلاقات التركية – الأمريكية، وعلى انحياز أمريكي نسبي وتدريجي إلى جانب اليونان وقبرص (اليونانية) في خلافهما مع أنقرة، بما في ذلك تعليق حظر تصدير السلاح لقبرص وزيارة وزير خارجيته اليونان دون تركيا، والمناورات العسكرية اليونانية – الأمريكية على مقربة من الحدود مع تركيا، فضلاً عن تصريحات عُدَّتْ دعماً لأرمينيا ضد أذربيجان التي تدعمها أنقرة في المقابل.
في المقابل، ليس من المقطوع به أن بايدن حال فوزه سيذهب لتوتير العلاقات مع أنقرة ويفعّل قانون كاتسا ضدها وفق ما أوعد. فمن جهة، تختلف تصريحات المرشح الرئاسي عن توجهاته إن انتخب رئيساً، وهو أمر مفهوم ومتفهم في عالم السياسة. فالحملات الانتخابية مبنية على التصعيد والمبالغات والتصريحات الحادة، بينما السياسات تبنى على الاستراتيجيات والمصالح وتقديرات مؤسسات الدولة.
ومن جهة ثانية، فإن بعض توجهات بايدن، إن أصبح رئيساً، قد تحيجه لعلاقة أفضل أو غير متوترة على أقل تقدير مع تركيا. فسعي بايدن لتخطي الفجوة مع الدول الأوروبية في ظل الناتو وعمله على اتفاق جديد مع إيران – وفق ما ذكرت بعض التقارير – وغيرها من المسارات قد تدفعه للتعاون مع أنقرة.
في الخلاصة، ثمة قلق تركي من انتخاب بايدن رئيساً، لا سيما في ظل تحشد الكونغرس ضدها، لكن ترمب ليس بالضرورة خياراً جيداً. اللهم إلا أنه خيار مجرب خلال السنوات الأربع الفائتة، ما يعني توقع استمرار العلاقات بين البلدين في ظله في مسارها السابق، رغم أنه معروف بالمفاجآت والاضطراب كما سبق.
لكن، وبغض النظر عن اسم الرئيس المقبل للولايات المتحدة، فإن العلاقات الثنائية ستبقى في مسار التأرجح والاضطراب على المديين القريب والمتوسط على أقل تقدير. ذلك أن سعي أنقرة لسياسة خارجية مستقلة نسبياً عن أطر تحالفاتها الغربية، وعدم استعداد واشنطن لتقبل ذلك والتعامل على أساسه، ينذران باستمرار الفجوة بين الجانبين في الفترة المقبلة.
هنا يبرز ملف إس400 كأحد أكبر التحديات التي ستواجه العلاقات بين البلدين في المدى القريب، بعد حديث اردوغان عن إجراء بلاده تدريبات على المنظومة ما يوحي بقرب تفعليها. وهنا، يمكن توقع ردة فعل حادة من بايدن، وأخرى غير مضمونة بالضرورة من ترمب. من جهة أخرى، فإن الاقتصاد التركي ليس في أفضل حالاته ليواجه عقوبات أمريكية على هامش هذه القضية الخلافية مع واشنطن.
في هذا الإطار، تعوّل تركيا على حرص الولايات المتحدة على عدم خسارتها والقطيعة معها بما يدفعها أكثر نحو الحضن الروسي وبما يشكل ضربة كبيرة لحلف الناتو الذي تملك تركيا ثاني أكبر جيش فيه. لكن السياسات الأمريكية في السنوات القليلة الماضية فعلت ذلك تحديداً.
فإذا ما أضيف إلى ذلك تهديدات الاتحاد الأوروبي بعقوبات على تركيا على خلفية التوتر في شرق المتوسط، سيكون لتركيا أكثر من سبب يدفعها لتعميق تعاونها وتطوير تفاهماتها مع موسكو، على غير رغبة منها بسبب الخلافات الكبيرة معها في عدة ملفات.
ولعل هذا هو التحدي الأكبر للسياسة الخارجية التركية في السنوات القليلة الأخيرة وكذلك المستقبل القريب. أي عدم التوافق تماماً مع أي من القوى الكبرى، الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي، والخلاف معها جميعها في بعض الملفات، وصعوبة التوازن فيما بينها، والاضطرار لإجراء مساومات مؤقتة مع بعضها. بما يظهرها وكأنها سياسة يومية مفتقرة للرؤية الثابتة ومبنية على ردات الفعل.
تراقب أنقرة الانتخابات الرئاسية الأمريكية عن كثب، وهو استحقاق قد يبنى عليه الكثير خصوصاً وأن اردوغان كان ألمح مؤخراً إلى احتمال قيام بلاده بعملية جديدة شمال سوريا فضلاً عن ملفات ليبيا وشرق المتوسط والقوقاز. لكن أياً من الخيارين، ترمب أو بايدن، لا يشكل ضمانة لأنقرة ولا يريحها بالكامل، فالتقاطعات والخلافات المؤسسية والقضايا العالقة بين البلدين أكبر بكثير من أن يحلها اسم الرئيس المقبل.
ولأنه من غير المرجح تجاوز البلدين كل ذلك بصفقة شاملة قريباً، يمكن القول إن العلاقات التركية – الأمريكية مرشحة للبقاء على حالها: توترات وأزمات وتأرجح على أرضية من تراجع الثقة، وتعويل على المصالح والمهددات المشتركة والعقل الاستراتيجي لتجنب المواجهة و/أو القطيعة.