بدأ مجلس الشعب التركي قبل أيام مناقشة مشروع قانون “إنهاء الإرهاب وتمتين الوحدة المجتمعية” كخطوة في سلسلة الإجراءات الرامية لحل القضية الكردية بالطرق السياسية السلمية. وتزداد أهمية هذا القانون إذا ما نظرنا إليه من زاويتي المضمون والتوقيت، خاصة بدء حملة الانتخابات الرئاسية التركية وتطورات الوضع في العراق.
مواطنون من الدرجة الثانية
لقد عانى الأكراد في تركيا من انتقاص حقوقهم كمواطنين أصلاء في الجمهورية التركية منذ تأسيسها عام 1924، ذلك أن أتاتورك وضع لها ستة مبادئ عامة تحكم نشأتها ومسيرتها، تأتي في مقدمتها القومية التركية، ملغياً كل الإثنيات الأخرى غير التركية من أكراد وعرب وبوشناق وشركس وغيرهم، إذ اعتبر ذلك التنوع ضعفاً وعنوان تشتت لا تملك تركيا الناشئة حديثاً رفاهية تحمل تبعاته. وبذلك اعتبر كل مواطن في الجمهورية التركية “تركيا” وإن كان ينتمي فعلاً إلى عرق آخر، وكان في مقدمة هؤلاء الأكراد الذين يقدر عددهم اليوم بحوالي 14 مليوناً (لا أرقام رسمية بهذا الخصوص) من بين 76 مليوناً هم تعداد الشعب التركي.
تبع هذا التصنيف الكثير من الإجحاف بحق الأكراد على مدى عشرات السنين، على رأسه حظر لغتهم تحدثاً وتدريساً، وعدم الاعتراف بحقوقهم الثقافية، إضافة إلى ما لحق منطقة جنوب شرق تركيا ذات الأغلبية الكردية من إهمال اقتصادي وتنموي، خاصة بعد نشوب الصراع المسلح مع حزب العمال الكردستاني منذ سبعينات القرن الماضي.
مع العدالة والتنمية
تبدلت الأوضاع قليلاً، وإن بطيئاً، مع وصول حزب العدالة والتنمية للحكم. فقد استثمرت الحكومات المتعاقبة الاستقرار السياسي والانتعاش الاقتصادي الذي عاشته تركيا، والحاضنة الشعبية التي تأمنت بفعلهما، إضافة إلى التمترس بمعايير الاتحاد الأوروبي للانضمام إليه، لتقوم بإصلاحات على مراحل متباعدة، بحيث تبني كل منها على سابقتها، فكانت أولاها عام 2003 حين سمحت الحكومة بتنظيم دورات لتعليم لغات غير التركية، لحقها افتتاح أقسام لتعليم تلك اللغات في الجامعات التركية، إضافة إلى حقوق التأليف والنشر باللغة الكردية، ثم افتتحت الدولة نفسها قناة تلفزيونية رسمية ناطقة بالكردية، وفي عام 2012 تم السماح بتعليمها كمادة غير إلزامية في المدارس.
أما الحلقة الأخيرة من هذه الإصلاحات فكانت في “حزمة الإصلاحات الديمقراطية” التي أعلنها اردوغان في أيلول/سبتمبر عام 2013، والتي تضمنت السماح بفتح مدارس ومعاهد خاصة تدرس بلغات غير التركية (الكردية خاصة)، والدعاية السياسية بلغات ولهجات أخرى، وتغيير أسماء بعض القرى لتعود لأسمائها القديمة، وزيادة عقوبات العنصرية والتمييز على أساس اللغة والعرق والقومية، وصولاً إلى تغيير “القـَسَم الطلابي” الذي كان يتلى صباحاً في كل المدارس التركية لأنه يشير إلى الطالب “التركي” حصراً كقومية.
كما تبنى العدالة والتنمية سياسة تنمية المناطق الكردية عبر سلسلة من المشاريع الاقتصادية والتنموية، من طرق ومستشفيات ومطارات وجامعات ومرافق سياحية، نهضت بالمنطقة المهملة منذ عشرات السنين، وأظهرت اهتمام الحكومة ورئيسها بالمنطقة، الأمر الذي أمن له استقبالاً حاشداً ومهيباً لدى زيارته مدينة دياربكر، أكبر المدن الكردية، حين زارها قبل ثمانية أشهر.
عملية السلام
رأت تركيا أن كل هذه الخطوات ستكون ريشة في مهب الريح إن لم يتم تأمين الهدوء والأمن في المناطق الكردية، بما يبعد شبح النزاع المسلح ويساعد الأكراد على الاندماج في المجتمع كطيف أصيل ورئيس، سيما وأن تركيا دفعت ثمن هذا النزاع ثلاثين ألفاً من أبنائها إضافة إلى خسائر اقتصادية بمئات المليارات من الدولارات (300 مليار دولار وفق إحدى الدراسات)، فضلاً عن إعاقة التنمية والاستقرار السياسي، وليس انتهاءً بهشاشة الجبهة الداخلية وفتح الباب للتدخلات الخارجية.
في الواحد والعشرين من آذار/مارس عام 2013 (وفي احتفالات النوروز التقليدية لدى الأكراد) تليت رسالة وجهها عبدالله أوجلان زعيم الحزب المعتقل لدى السلطات التركية يأمر فيها أتباعه بإلقاء أسلحتهم ومغادرة الأراضي التركية، تبين على إثرها أن بنود الاتفاق غير المعلن بين الطرفين تتضمن مغادرة أعضاء الحزب المسلحين لتركيا نحو العراق (جبال قنديل) على دفعات، وإدماج من لم يشتركوا في عمليات تفجير وقتل في المجتمع التركي، في مقابل إصلاحات دستورية وقانونية تلحظ حقوق الأكراد المضاعة. وقد اجتازت فعلاً مجموعات من الحزب الحدود فيما عادت مجموعات أخرى إلى قراها، وساد هدوء نسبي المنطقة منذ ذلك الحين.
تركيا وتغيرات الإقليم
بيد أن هذا الملف ليس تركياً محضاً، فالأكراد الذين يتوزعون منذ نهاية الحرب العالمية الأولى على أربع دول هي إيران والعراق وسوريا إضافة إلى تركيا ظلت تراودهم فكرة الدولة القومية لتجمع شتات شعبهم، دون أن يجدوا الفرصة المواتية لذلك.
لقد بنت تركيا سياستها الخارجية على نظرية تصفير المشاكل التي صاغها وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو، وآتت تلك السياسة أكلها لسنوات طويلة، دخلت تركيا خلالها العالم العربي من عدة أبواب في مقدمتها سوريا، وطورت علاقاتها مع جميع الأطراف في الإقليم، دون التنازل عن خطوطها الحمر، وعلى رأسها رفض قيام دولة قومية للأكراد في المنطقة، لما يشكله ذلك من خطر على أمنها القومي.
غير أن كرة الثلج المتدحرجة في المنطقة اضطرت تركيا لتغيير كبير في سياساتها الخارجية، تحديداً فيما خص الملف الكردي. فقد استقبلت تركيا رسمياً رئيس حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسعى إلى حكم ذاتي لأكراد سوريا، كما رافق رئيس إقليم شمال العراق مسعود بارزاني اردوغان في زيارته المهمة إلى دياربكر أكبر المدن الكردية، وباتت كلمة “كردستان” المحظورة في تركيا تتردد على ألسنة العديد من السياسيين.
أسباب التغيير
لكن المفاجأة الكبيرة أتت مع تفجر الأوضاع في العراق، وخطف طاقم القنصلية التركية في الموصل على يد تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام (داعش)، والإعلان عن عزم إقليم شمال العراق إعلان الاستقلال وضم كركوك، وموقف أنقرة شبه الصامت إزاء كل هذه التطورات. ويمكننا رصد عدة أسباب جوهرية لهذا التغير الدراماتيكي في الموقف التركي، منها:
- براغماتية السياسة التركية: التي تعلمت من دروس الموقف في سوريا، ولا تريد أن تورط نفسها في مواقف متشددة أو عالية السقف في ظل وضع متفجر ومتدحرج نحو المجهول. كما أن انقرة لا تريد أن تغضب “داعش” التي تحتفظ بطاقم القنصلية التركية بين يديها كورقة ضغط، وتخشى أن يكون مصيرهم القتل جراء أي موقف عدائي.
- تغيير الوضع القائم: يبدو أن تركيا تفكر مؤخراً بطريقة “إذا أردت أن تحل مشكلة، فافتعل مشكلة”، فهي لم تكن يوماً على وفاق مع حكومة المالكي وسياساته رغم انفتاحها عليه، إضافة لمحاولاته المتكررة إعاقة الاتفاقيات الاقتصادية الموقعة بين تركيا وإقليم شمال العراق. وما دامت الأحداث في غير مصلحة الحكومة المركزية، وتسير في طريق تغيير الموازنات والخريطة السياسية هناك، فلم التعجل في إعلان المواقف؟
- الصراع مع إيران: لا شك أن تركيا نجحت حتى الآن في تجنب أي صراع مباشر مع جارتها القوية، حتى ولو بالتراشقات الإعلامية، رغم الخلاف الشديد بينهما في عدة ملفات على رأسها سوريا والعراق. وتبدو تركيا أكثر حذراً بعد الاتفاق الغربي مع إيران، الذ ي اضطرها في حينه إلى التراجع خطوة نحو الوراء والانفتاح أكثر على إيران وحكومة المالكي، ولذلك تبدو غير راغبة في أي تصعيد من أي نوع معها، في ظل تخوفها من إعادة رسم الخرائط في المنطقة بين إيران والغرب بمعزل عنها.
- الجار الحليف: بدأت نظرة تركيا تتغير نحو إقليم شمال العراق، كمنطقة سياسية مستقرة نسبياً وسط سيولة الأوضاع السياسية في باقي المناطق العراقية، وهو ما يفيد الجار التركي في نقطتين: عقود النفط التي تستفيد أنقرة من عائداتها، وتأمين الحدود حيث يشكل الإقليم منطقة عازلة بين تركيا ومناطق الاضطرابات.
- عملية السلام: تنصب جهود تركيا حالياً على محاولات إنهاء القضية الكردية وملف “الإرهاب” سياسياً، ولذلك فهي لا تريد لأي موقف منها خارج السياق أن يؤثر على هذه عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني، التي ترى فيها أحد أهم سبل الاستقرار والتنمية داخلياً. كما تطمع أنقرة بمساهمة من أكراد العراق بالضغط على الحزب للاستمرار في العملية دون إبطاء أو تعطيل، خصوصاً جناح جبال قنديل.
- الانتخابات الرئاسية: ستكون تركيا في العاشر من آب/أغسطس القادم على موعد مع استحقاق الانتخابات الرئاسية الذي سيشكل بدرجة كبيرة النظام السياسي التركي في السنوات القليلة القادمة. ويبدو المرشح الأبرز حظاً، رئيس الوزراء التركي اردوغان، بحاجة لأصوات الأكراد خصوصاً إذا ما تأجل الحسم إلى جولة الإعادة.
آفاق المستقبل
وفي المحصلة تبدو تركيا اليوم أكثر إدراكاً أن القضية الكردية لم تعد شأناً داخلياً للدول الأربع المحتضنة للشعب الكردي بعد ضعف الحكومتين المركزيتين في العراق وسوريا، وأن حلها قد يمر عبر إعادة رسم الخرائط في الإقليم، وأن الوضع صعب الاستشراف في ظل تدخل فواعل كثيرة في الساحة العراقية على رأسها “داعش”، فضلاً عن إيران. ولذلك، لا تقدم تركيا مقاربة أيديولوجية أو شعاراتية جامدة، بل تتبنى سياسة المتابعة المرنة التي تعتمد على تغيير المواقف التكتيكية طبقاً لتطورات الأحداث على الأرض.
كما تبدو الحكومة التركية شديدة الحرص على أصوات الأكراد في الانتخابات القادمة، والذي تأمل أن تعود نتائجها الإيجابية – إضافة إلى انتخاب اردوغان رئيساً – على عملية السلام في البلاد، وربما ينتج عنها تحالف انتخابي أو سياسي يسهل تحويل البلاد إلى نظام رئاسي أو شبه رئاسي وفق رؤية اردوغان، ويسعى لصياغة دستور جديد بعد الانتخابات البرلمانية في 2015، بما يقدم حلاً استيراتيجياً ونهائياً للقضية الكردية، ربما عبر إعطاء المناطق الكردية حكماً ذاتياً يسعون إليه مؤخراً، أو التحول إلى نظام حكم فيدرالي في المستقبل البعيد.