تركيا وإيران: توتر عابر ولكن كاشف
عربي 21
للرئيس التركي رجب طيب اردوغان قصة طويلة مع الشعر. فهو يحبه ويحفظه ولا يكاد يخلو خطاب له من أبيات شعرية تتناغم مع مناسبة الخطاب، فضلاً عن أنه كان قد سجن بسبب أبيات شعرية قالها حين كان رئيساً لبلدية إسطنبول الكبرى في تسعينات القرن الماضي.
هذه المرة، وقبل أيام، تسببت أبيات شعرية رددها اردوغان في توتر أو أزمة دبلوماسية قصيرة بين بلاده وإيران. فخلال مشاركته في احتفالات أذربيجان بانتصارها على أرمينيا، ردد اردوغان أبياتاً للشاعر الإيراني الأذري “صمد برنغي” يقول فيها “فصلوا بين أراس”. و”أراس” هو نهر يفصل بين دولة أذربيجان ومنطقة أذربيجان الإيرانية، أي يحيل إلى تقسيم أراضي أذربيجان بين روسيا وإيران في القرن التاسع عشر.
ولأن هذه الأبيات قيلت في باكو، وخلال احتفالات النصر على أرمينيا، وعلى لسان الرئيس اردوغان، يبدو أنها فهمت كتحريض لأبناء القومية الأذرية في إيران وأثارت هواجس النزعات الانفصالية لدى طهران، وهي – أي هذه الهواجس – أحد أهم دوافع الموقف الإيراني في أزمة القوقاز والذي يوصف تقليدياً بأنه أقرب لأرمينيا منه لأذربيجان.
ردة الفعل الإيرانية أتت حادة ومرتفعة السقف. بدأت مع وزير الخارجية جواد ظريف الذي اعتبر ذلك استهدافاً لوحدة الأراضي الإيرانية، واستمرت مع استدعاء الخارجية الإيرانية السفير التركي لديها ومطالبته بتقديم توضيح. الأهم أن بعض وسائل الإعلام الإيرانية شنت حملة على اردوغان، ووصفه بعضها بـ”سلطان الأوهام” ونشر بعضها الآخر صوراً وكاريكاتورات تحمل تلميحات مسيئة، فضلاً عن أن بعض النشطاء دعوا لما أسموه “صفوية جديدة” في مواجهة “العثمانية الجديدة”.
على الجانب التركي، دان رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة فخرالدين ألتون “التصريحات العدائية” ضد بلاده ورئيسها بذريعة “شِعْر أخرِجَ عن سياقه”، وذكّر الناطق باسم حزب العدالة والتنمية طهران بأن اردوغان “صديق طالما وقف إلى جانبها”، فيما طالب وزير الخارجية مولود تشاوش أوغلو نظيره الإيراني بعدم نسيان حقيقة أن بلاده “وقفت إلى جانب إيران حينما أدار الجميع ظهورهم لها” معبراً عن خيبة أمل بلاده من التصريحات الإيرانية.
لاحقاً، أعلنت السفارة الإيرانية في تركيا “انتهاء سوء الفهم” بين البلدين بعد اتصال هاتفي بين وزيري خارجيتهما، ما يعني أن التوتر حُلَّ دون أن يتحول إلى أزمة كبيرة، لكن ذلك لا يمنع أنه وإن كان عابراً فقد كان كاشفاً لعدة أمور.
بالتأكيد لا يمكن القول إن ما حصل كان زلة لسان من الرئيس التركي، فمن المعروف عنه أن خطاباته تُعَدُّ سلفاً بعناية وأنه نادراً ما يرتجل، ما يعني أن هناك خطأً تركياً في اختيار أبيات يمكن أن تفسر بطريقة سلبية. لكن أيضاً لا يمكن تصور أن اردوغان قصد فعلاً تحريض الإيرانيين الأذريين على الانفصال أو أنه يستهدف – كما قيل – وحدة الأراضية الإيرانية، ليس وبلاده هي الأكثر حساسية من النزعات الانفصالية على أسس قومية وعرقية وتكافحها منذ أربعة عقود. الأرجح أن اردوغان، على عادته، استشهد بأبيات لشاعر أذري فيها حنين للماضي ومحمّلة بمشاعر قومية مجاملةً لأذربيجان وتفاعلاً مع انتصارها.
في المقابل، كان يمكن لطهران أن تطلب استيضاحاً من أنقرة حول الأبيات والقصد منها، وكان ذلك كفيلاً بحل الأمر سريعاً ودون تبعات، لكنها فضّلت فيما يبدو رفع السقف بهذه الطريقة. خصوصاً وأنه كان مستهجناً أن تذهب لهذا التصعيد الدبلوماسي والإعلامي مع أنقرة وهي في حاجة لها في ظل الضغوط والعقوبات والحصار المفروض عليها. فما هي أسباب ذلك التصعيد؟
ثمة ما هو مرتبط بالعلاقات التركية – الإيرانية المعقدة والواضحة في آنٍ معاً. إذ لأسباب تاريخية وجغرافية وجيوسياسية وقومية وأخرى تتعلق بنموذج الدولة والحكم والنظرة لبعض قضايا المنطقة، تحكم البلدين علاقة تنافس محموم ولكن دون صخب أو قطيعة أو مواجهة مباشرة. بل إن البلدين أسّسا مع روسيا إطاراً ثلاثياً للتنسيق ومنع الصدام في سوريا منذ بدايات 2017، فضلاً عن العلاقات الاقتصادية والتجارية، وتحول تركيا لمتنفس لإيران وبوابتها على العالم بعد الحصار والعقوبات، وهو أمر تعرضت أنقرة بسببه لعقوبات أمريكية ومسار قضائي لم ينته تماماً بعد.
في إطار ذلك، ورغم أنه من المتفهم أن يثير الشعر حساسية لدى إيران، إلا أن ردة الفعل المبالغ بها – وخصوصاً الحملة على اردوغان وتركيا – يمكن عزوها لبعض التطورات الإقليمية، وفي مقدمتها المواجهة الأخيرة في القوقاز. ذلك أن انتصار أذربيجان بالشكل الذي حصل والاتفاق المبرم عُدَّ مكسباً لكل من روسيا وتركيا في المنطقة، فيما لا يمكن قول الأمر نفسه عن إيران.
كما أن إيران ليست مرتاحة تماماً للأوضاع في سوريا، لا في العموم ولا بخصوص الدور التركي ولا حتى على صعيد حالة التنافس الضمنية وغير المعلنة مع روسيا. اقتصادياً أيضاً، ثمة تذمر إيراني من سعي تركيا الدؤوب لتقليل نسبة اعتمادها على الغاز الإيراني (والروسي قبله) ورفع نسبة استيرادها من مصادر أخرى في مقدمتها أذربيجان. فإذا ما أضفنا لذلك اكتشافات تركيا في البحر الأسود، فإن يد تركيا ستكون أقوى في أي تفاوض مستقبلي مع إيران حول الغاز، بخصوص الكمية والسعر على حد سواء، وهو أمر بالغ الأهمية بالنسبة للأخيرة.
في المحصلة، تبدو ردة الفعل الإيرانية المبالغ بها تجاه تركيا وخصوصاً اردوغان مرتبطة بخلفيات تاريخية وتطورات إقليمية أكثر مما هي مرتبطة حصراً بأبيات الشعر. لكن في المقابل، هناك تطوران آخران قد يدفعان الجانبين لترطيب العلاقات أو تخفيف حدة التوتر على أقل تقدير.
الأول هو انتخاب بايدن وما يرتبط به من متغيرات محتملة في السياسات الأمريكية تجاه المنطقة عموماً والبلدين على وجه الخصوص. وأما الثاني فهو مسار تطبيع العلاقات بين عدد من الدول العربية والكيان الصهيوني والذي يبدو فيه الطرفان – تركيا وإيران – مستهدفين. وإذا ما كان التطور الأول محتملاً وما زال غير واضح، فإن الثاني قائم وواضح وقابل للزيادة عدداً ودرجة.
توقُّفُ الحملة الإيرانية على اردوغان وتصريح الرئيس الإيراني باستبعاده وجود نية لدى اردوغان لاستهداف بلاده وإدانة الخارجية الإيرانية للعقوبات الأمريكية الأخيرة على تركيا كلها إشارات مهمة على الرغبة في تجاوز الأزمة، لكن من الصعب القول إنها انتهت تماماً وبدون أي ذيول. على الأقل، فإن توقيت إعلان أنقرة عن اعتقال مخابراتها 11 شخصاً مرتبطين بالمخابرات الإيرانية على خلفية اختطاف معارض إيراني على الأراضي التركية يوحي بعكس ذلك.
في الخلاصة، سيبقى التنافس يحكم العلاقة بين القوتين الإقليميتين، فيما تضعهما بعض الملفات الإقليمية في مواجهة غير مباشرة، وتدفعهما تطورات عالمية وإقليمية أخرى نحو التنسيق والتعاون، ويبقى الخيار مرهوناً بالإرادة السياسية لدى الطرفين وليس فقط جملة المصالح والمهددات المشتركة التي تجمعهما.