تركيا وأوروبا: أزمة عميقة أم زوبعة في فنجان؟
عربي 21
انضمت هولندا إلى قائمة الدول التي منعت لقاءات جماهيرية تركية على أراضيها كان يفترض أن يشارك بها مسؤولون أتراك، لكن الإجراءات الهولندية كانت أكثر وقعاً من سابقاتها وأدت إلى أزمة دبلماسية مع أنقرة. فهل الأزمة تركية – هولندية محدودة أم تركية – أوروبية عامة؟ وما هي أسبابها وعوامل تفجيرها؟ وإلى أين تسير مآلاتها؟
ثمة أسباب كثيرة لتراجع العلاقات التركية – الأوروبية بعضها ذاتي وبعضها الآخر موضوعي وتتوزع بين الجانبين التركي والأوروبي، في مقدمتها تعثر مسيرة تركيا نحو عضوية الاتحاد الأوروبي وفشل اتفاق إعادة اللاجئين وعدم الرضى الأوروبي عن السياسة الخارجية التركية، واستياء أوروبي من شخص الرئيس التركي وسقف خطاباته، وهو تراجع أدى بتركيا مع عوامل أخرى إلى البحث عن بدائل في ركائز وبوصلة سياستها الخارجية (1).
بيد أن الأزمة الحالية بين تركيا وعدد من الدول الأوروبية تبدو أكبر من مجرد تدهور امتد على مدى زمني طويل، وقد بدأت بين أنقرة وبرلين على النحو الذي ذكرت أسبابه وتفاصيله في مقال سابق (2)، غير أن الطرفين استطاعا لاحقاً احتواء الأزمة بزيارة وزير الخارجية التركي لألمانيا والتقائه بنظيره الألماني، فضلاً عن إلقائه خطاباً بمواطنيه في قنصلية بلاده في هامبورغ وسماح السلطات الألمانية بفعاليات أخرى شارك بها مسؤولون أتراك آخرون.
بيد أن الأمر لم يقتصر على ألمانيا، بل انضمت لها النمسا ثم هولندا ولاحقاً – ولو على استحياء – الدنمارك، الأمر الذي أنذر بأزمة تركية – أوروبية. إلا أن تمظهرات الأزمة بين تركيا وهولندا كانت الأكثر حدة وشدة، حيث تميزت الإجراءات الهولندية بفارقين مهمين عن ألمانيا وباقي الدول:
الأول، أن إلغاء الفعاليات أتى من السلطات الحكومية المركزية وليس من الإدارات المحلية كما حصل في ألمانيا مثلاً.
الثاني، أنها شملت تصرفات بعيدة تماماً عن التصرفات الدبلماسية المتعارف عليها في العلاقات الدولية سيما بين دولتين صديقتين، مثل سحب إذن الهبوط المعطى لطائرة وزير الخارجية التركي وتوقيف وزيرة شؤون الأسرة والسياسات المجتمعية لساعات ومنعها من دخول قنصلية بلادها التي تعتبر أرضاً تركية وفق القانون الدولي والتعاملات الدبلماسية.
في مسار الأحداث، يبدو أن الدول الأوروبية المختلفة وخصوصاً هولندا قد ارتكبت ثلاثة أخطاء هي التعامل الخارج عن أطر الدبلماسية ومحاولة التأثير على مسار ونتائج الاستفتاء في تركيا وانتهاك حق الأتراك المغتربين في التجمع والتعبير عن الرأي.
يقدم مسؤولو تلك الدول حزمة من الاعتبارات كأسباب لإلغائهم اللقاءات التركية وزيارات المسؤولين، منها ما هو واضحُ الذرائعية غيرِ المنطقية مثل الأسباب الأمنية أو عدم كفاية مرآب السيارات لعدد الحاضرين وما إلى ذلك، لكن منها أيضاً ما اعتبروه رغبة منهم في عدم نقل حالة الاستقطاب التركية إلى الداخل الأوروبي ودعم التدخل في الشؤون الداخلية لتركيا، فضلاً عن تحفظاتهم على حالة الديمقراطية والحريات في تركيا مثلاً.
والحقيقة أن هذه الأسباب لا تصمد كثيراً أمام الوقائع والأحداث. ففكرة الابتعاد عن الاستقطاب التركي وعدم التدخل لا تتفق مع السماح بفعاليات للتيار الرافض للاستفتاء الدستوري في هولندا شاركت به شخصيات معارضة مثل النائب السابق والمُقال من العدالة والتنمية عبداللطيف شنار أو رئيس اتحاد غرف المحاماة متين فوزي أوغلو أو البرلمانية عن حزب الشعوب الديمقراطي (والمطلوبة للقضاء التركي) طوبا أوزتورك إضافة لزعيم المعارضة التركي السابق دنيز بايكال الذي ألغى بنفسه فعالية كان سيشارك بها احتجاجاً، بل لا تنسجم مع تنظيم فعاليات بخصوص الانتخابات الهولندية في كانون الثاني/يناير الفائت في بريطانيا بمشاركة عدة أحزاب هولندية.
كما أن سردية الديمقراطية والحريات لا تستقيم مع زيارة السيسي (وغيره) واستقباله في العواصم الأوروبية، رغم أن العلاقة المصرية – الأوروبية تختلف بطبيعة الحال توصيفاً وتاريخاً وواقعاً عن العلاقات التركية – الأوروبية التي تقع في قلب مشروع تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي وما يرتبه عليها ذلك من التزامات وما يحملها من وصائية أوروبية إلى حد ما، فضلاً عن حساسية الدول الأوروبية من ازدواجية الانتماء للجاليات التركية فيها بين تركيا والدول التي يحملون جنسيتها.
السبب المنطقي إذن هو رغبة ضمنية في التأثير على نتائج الاستفتاء في تركيا باعتباره خطوة جذرية ستغير من نظام الحكم في البلاد ومن ديناميات التأثير على الحكومة فيها من الداخل والخارج وهو ما يمكن أن يفسر اللهاث الأوروبي بطريقة مكشوفة للدخول على مسار الحملات الانتخابية التركية دعماً لـ “لا” ومنعاً لـ ” نعم” بشكل لم نشهده مسبقاً.
لكن السبب الأبرز يبدو رغبة من الأحزاب الحاكمة في التحرر من ضغوط الأحزاب اليمينية ومزاوداتها والظهور في مظهر “الصقور” في وجه اردوغان تحديداً لكسب الأصوات بعد أن كانت هذه الأحزاب والشخصيات خصوصاً ميركل قد تعرضوا لانتقادات كبيرة على هامش اتفاق الإعادة مع تركيا في آذار/مارس 2016 وغيرها من المحطات. هذه المقاربة تبدو منطقية أيضاً بالنظر إلى الفارق الكبير بين مستوى التصعيد الهولندي والدول الأخرى باعتبار أن هولندا تنظم انتخاباتها البرلمانية يوم الأربعاء المقبل.
من جهة أخرى، بدا الرد التركي حاداً جداً وعالي السقف كثيراً، على مستوى الخطاب الذي استعمل مفردات “النازية” و”الفاشية” وعلى مستوى الممارسة بتحدي الوزيرين أمستردام بالسفر جواً وبراً رغم رفضها المعلن، فضلاً عن لغة التحدي والتهديد بالعقوبات قبل الزيارتين الملغاتين وبعدهما. هذه الحدة في الردود غذت تحليلات اعتبرت أنقرة مستفيدة من حالة التصعيد الحالية – بطريقة مشابهة لهولندا – لدعم الاستفتاء، وهو منطق مفهوم باعتبار أن الحاضنة الشعبية المؤيدة للاستفتاء في تركيا في غالبيتها من اليمين المحافظ والقومي وهو تيار يحركه الخطاب القومي وسردية الاستهداف والرد على “الآخر” الغربي.
لكن ذلك لا ينفي ردة الفعل الطبيعية أيضاً من أنقرة لصدمتها من التعامل الهولندي مع وزرائها وبسبب الأرضية المتدهورة للعلاقات مع أوروبا أصلاً، الأمر الذي حفز المشاعر القومية لرفض “الإهانة” الهولندية – الأوروبية، وهي مشاعر اشتركت بها الحكومة والشعب والمعارضة، حيث طالب رئيس حزب الشعب الجمهوري المعارض بتجميد العلاقات مع هولندا، كما أغلى رئيسه السابق بايكال خطاباً كان سيلقيه في ألمانيا في وقت سابق.
لم تكتف أنقرة بالرد الكلامي على التصرفات الهولندية، بل استدعت القائم بأعمال السفير الهولندي عدة مرات وأبلغته رسالات الاحتجاج، وطلبت من السفير عدم العودة من إجازته “حتى حين”، وأغلقت السفارة والقنصلية الهولنديتين “لأسباب أمنية”. فهل هذا يعني أزمة عميقة في العلاقات لا يمكن الرجوع عنها؟
تقديري أن الطرفين لم يكونا يرغبان وما زالا لا يريدان أزمة عميقة وقطيعة كاملة، بل كانا يراهنان على تصعيد منضبط، محدود السقف ومعروف المسار، لكن الفعل وردات الفعل أخرجت الأمر مرحلياً عن إطاره. وعليه، فمن غير المتوقع أن تتطور العقوبات التي هددت بها أنقرة لتشمل قطيعة دبلماسية كاملة أو عقوبات اقتصادية مثلاً، باعتبار أنها ستضر الطرفين في ظل ميزان تبادل تجاري يقدر بـ 6.6 مليار دولار بين الجانبين، وهو الأمر الذي أكد عليه بعض المسؤولين الأتراك.
ما هو متوقع إذن هو استمرار الموقف الحالي برفض عودة السفير الهولندي ومواصلة الخطاب الحاد ضد أمستردام (وربما سحب السفير التركي؟)، إضافة إلى احتمال تقليل التعاون الاستخباري ورفض زيارة المسؤولين الهولنديين لتركيا ومنع الطائرات الهولندية من التحليق فوق الأجواء التركية كما أشارت بعض التحليلات الصحافية التركية.
بهذا المعنى فإن أنقرة حريصة على عدم تعميق الأزمة ولا توسيعها لتشمل الاتحاد الأوروبي ككل، ومن إشارات هذه الرغبة التركية في التهدئة النسبية وضبط الأمور:
أولاً، عدم مسارعة تركيا لإعلان عقوبات إضافية على هولندا وانتظار ما بعد الانتخابات الهولندية، والاكتفاء بالإجراءات الدبلماسية الاعتيادية حتى الآن.
ثانياً، إعادة السلطات التركية رفع العلم الهولندي على القنصلية في إسطنبول بعد أن أنزله أحد المتظاهرين.
ثالثاً، اتصال وزير الخارجية التركي بمسؤولين في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو وبريطانيا للتشاور.
رابعاً، اشتراط تركيا اعتذار هولندا لإنهاء الأزمة، وهي لغة تشير للرغبة في الحل بطبيعة الحال.
خامساً، التركيز على استياء تركيا من التعامل غير الدبلماسي والخطاب العنصري دون استعداء الاتحاد الأوروبي كمنظومة واعتباره ما يزال رغم كل ما حدث “فكرة جيدة”، كما جاء في تغريدة للناطق باسم الحزب الحاكم ياسين أقطاي.
إذن، في المحصلة، تسعى هولندا للتصعيد وعدم التهدئة حتى تمرر انتخاباتها الوشيكة دون أن تظهر وكأنها تنازلت أمام تركيا، وتريد أنقرة ألا تبقى التصرفات الهولندية دون رد وأن تستثمر الحدث في المشهد الانتخابي الداخلي إن أمكن، لكنها لا تريد أن تتطور الأحداث إلى أزمة مستدامة بينها وبين الكل الأوروبي، بل لا تريد للحدث أن يضر بصورته وسياستها الخارجية وعلاقاتها المختلفة على المدى البعيد. فمن مصلحتها في نهاية المطاف ألا تستعدي مجمل دول الاتحاد الأوروبي أو الغرب بل أن تحصر المشكلة مع طرف محدد وهو الحكومة الهولندية من جهة واليمين المتطرف المتصاعد في أوروبا من جهة أخرى.
وأما على صعيد مستقبل العلاقات التركية – الأوروبية، فلا يمكن استشراف ذلك بالنظر فقط إلى المعادلة الثنائية، فالمشروع الأوروبي برمته يعاني من أزمة كبيرة في ظل المشاكل الاقتصادية وخروج بريطانيا والخلافات الأمريكية – الأوروبية حول الناتو. فإذا ما أضفنا لذلك تصاعد اليمين في عدد من الدول الأوروبية يمكننا القول إن الجانبين التركي والأوروبي باتا على شبه قناعة أن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي أمر غير مرجح ودونه صعوبات كثيرة وكبيرة، لأسباب ثقافية وسياسية واقتصادية، وقد انعكس ذلك على حماسة الأتراك أنفسهم لعضوية الاتحاد مؤخراً.
وبالتالي ربما يكون الحل في “شراكة خاصة” بين تركيا والاتحاد سيما على الصعيد الاقتصادي. فما يميز العلاقات التركية – الأوروبية حتى الآن تلك المفارقة الواضحة بين تدهور العلاقات السياسية ونمو العلاقات الاقتصادية حيث أن الاتحاد الأوروبي هو أكبر شركاء أنقرة التجاريين بحجم تبادل تجاري قدر عام 2016 بـ 142 مليار دولار حصة ألمانيا وحدها من ذلك 35 مليار دولار.
ولكن في كل الأحوال، ربما يجب انتظار الانتخابات البرلمانية في الدول الأوروبية المختلفة هذه السنة سيما ألمانيا وفرنسا ومدى تقدم اليمين المتشدد فيها، إضافة إلى الاستفتاء التركي على التعديلات الدستورية والذي سيكون له أثر مباشر على السياسة التركية في الداخل والخارج، للخروج برؤية ناضجة حول مستقبل العلاقات التركية – الأوروبية على المدى البعيد.
الهوامش:
- سعيد الحاج، تركيا والاتحاد الأوروبي ورحلة البحث عم بدائل، عربي 21، 30 كانون الثاني/يناير 2017: https://arabi21.com/story/981752/%D8%AA%D8%B1%D9%83%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA%D8%AD%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A-%D8%B1%D8%AD%D9%84%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%A6%D9%84
- سعيد الحاج، توتر جديد في العلاقات التركية – الألمانية، المعهد المصري للدراسات، 3 آذار/مارس 2017: