تركيا: رسائل أكشنار في مؤتمر الحزب الجيد
عربي 21
قبل زهاء أسبوع، في الرابع والعشرين من حزيران/يونيو الفائت، نظم الحزب الجيد في تركيا مؤتمره العام الثالث منذ تأسيسه، ليكون بذلك أول الأحزاب التركية لا سيما الكبيرة منها تنظيماً لمؤتمره العام بعد الانتخابات الأخيرة.
ثمة عرف لدى الأحزاب السياسية في تركيا في تأجيل مؤتمراتها العامة لما بعد الانتخابات، فمن جهة لا ترغب هذه الأحزاب بالانشغال في ملفاتها الداخلية، بل تقرر تركيز جهدها في الانتخابات تفكيراً وتخطيطاً وعملاً ميدانياً وسياسياً. ومن جهة ثانية يفترض أن تكون هذه المؤتمرات العامة – التي تشهد عادة انتخاب رئيس الحزب وهيئاته القيادية – فرصة للمحاسبة على نتائج الحزب في الانتخابات، بينما ما يحصل عادة هو إعادة رئيس/قيادة الحزب تأكيد شرعيته/ها بعد نتيجة الانتخابات التي عادة ما تشهد مطالبات بالتغيير أو المحاسبة أو حتى الاستقالة، ولذلك تحرص القيادات على هذه المؤتمرات فيما بعد الانتخابات لتجديد شرعيتها وتأكيد قيادتها.
فيما يخص الحزب الجيد، كان ثمة توقعات بأن يكون المؤتمر العام الثالث باباً لرحيل ميرال أكشنار عن رئاسته، من باب أن الانتخابات الأخيرة شهدت هزيمة لتحالف الشعب الذي يمثل الحزبُ ثانيَ أكبر أعضائه، فضلاً عن الاعتراضات داخله على التحالف وعلى بعض القرارات بما في ذلك اختيار رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدارأوغلو مرشحاً توافقياً له للانتخابات الرئاسية، فضلاً عن أزمة انسحاب أكشنار من الطاولة السداسية ثم عودتها إليها في آذار/مارس الفائت.
لكن هذه التقديرات لم تكن دقيقة، لثلاثة أسباب رئيسة على الأقل. ففي المقام الأول، لم تشكل الانتخابات الأخيرة هزيمة ثقيلة للحزب الجيد، فهو لم يقدم مرشحاً رئاسياً خاصاً به، والحزب حصل على نتيجة قريبة من نتيجته في الانتخابات التشريعية السابقة، بل يمكنه الحِجاج بأن رأيه بخصوص عدم صواب اختيار كليجدارأوغلو ثبتت صحته.
ومن جهة ثانية، فليس في الحزب الجيد حالياً شخصيات أو تيارات قوية وقادرة على منافسة أكشنار وحشد عدد كاف من أعضاء المؤتمر العام لتغييرها، لا سيما بعد خروج قيادات مؤسسة ووازنة منه مثل أوميت أوزداغ الذي أسس حزب النصر وسينان أوغان الذي كان مرشحاً رئاسياً لتحالف الأجداد اليميني.
وأخيراً، وهو الأهم، أن قانون الأحزاب في تركيا يمنح رئيس الحزب (أي حزب) صلاحيات وسلطات واسعة وشبه مطلقة، تجعل تغييره في المؤتمر العام في الظروف العادية أمراً مستبعداً جداً، إذ هو – رئيس الحزب – من يختار بنفسه عدداً مهماً من أعضاء المؤتمر العام المناط بهم انتخاب الرئيس والقيادة. ولذلك نادراً ما يحصل تغيير رئاسي في الأحزاب التركية بشكل اعتيادي، بل يكون عادة نتيجة لهزة كبيرة في السياسة الداخلية للحزب أو العامة في البلاد، أو فضيحة تلاحق رئيسه، أو زهد الأخير ورغبته الشخصية في المغادرة.
وقد حصل المتوقع في مؤتمر الحزب الجيد، فكانت أكشنار مرشحة وحيدة لرئاسة الحزب وجددت الهيئة العمومية رئاستها له بأصوات 1127 عضواً من أصل 1151 هم أعضاء المؤتمر العام، بينما ألغي 24 صوتاً، بمعنى أنها حصلت على جميع الأصوات المحسوبة قانوناً.
في كلمتها في المؤتمر، اختارت أكشنار خطاباً حاداً وحماسياًـ بلغة تصعيدية أحياناً، وبما تضمن مواقف عالية السقف، وكان لافتاً أن خطابها لم يتضمن تقييماً واضحاً أو كلاماً محدداً بخصوص أسباب خسارة الانتخابات. بينما زخر الخطاب برسائل موجهة للداخل الحزبي والخارج السياسي في البلاد وخصوصاً ما يرتبط بتحالف الشعب الذي – كان – ينتمي له حزبها. وقد حازت بعض الصياغات الحادة في خطابها على تصفيق حاد من أعضاء المؤتمر العام، بالنظر لأجواء هذه المؤتمرات عموماً، وطبيعة الحزب اليمينية القومية من جهة ثانية.
لعل الرسالة الأوضح في خطاب أكشنار كان إعلانها الضمني عن نهاية تحالف المعارضة أو الطاولة السداسية بشكلها السابق، إذ قالت إن “استعارة” 15 برلمانياً من حزب الشعب الجمهوري لحزبها ليتمكن قانونياً من المشاركة في الانتخابات التشريعية عام 2018 كان “أكثر ما ندمت عليه في حياتي”.
وأما الرسالة الداخلية فكانت عبارة عن تعظيم نفوذها في الحزب وسيطرتها على قراره وقيادته. فالقرار المتعلق بالتحالف بحد ذاته يقع في صميم هذا التوجه، إذ كان هناك اعتراضات كثيرة داخل الحزب على كثير من التفاصيل والقرارات المتعلقة بالتحالف، وفي مقدمتها ترشيح كليجدار أوغلو للرئاسة. وقد زادت حدة هذه الاعتراضات بعد الانسحاب من التحالف والعودة إليه وما شهدته تلك الأيام من هجوم حاد من أنصار الشعب الجمهوري على أكشنار وحزبها، وشهد الحزب استقالات كثيرة بعضها في مراكز قيادية. عبّرت أكشنار عن ندمها على هذا الخيار الذي قالت إنه تسبب بـ “سياسة الذَّيْل”، أي تبعية حزبها للشعب الجمهوري، وبالتالي فقرار الانسحاب من التحالف هو محاولة واضحة لتقليل الخسائر المرتبطة به وإثبات قوة الحزب واستقلاليته في المرحلة المقبلة.
كما مرت اكشنار على مبدأ المحاسبة في المؤتمر العام، فقالت إنها “مستعدة لتقديم الحساب” لكنها أيضاً ستحاسب الأعضاء والقيادات. وهنا أغلظت رئيسة الحزب في الكلام لبعض المخالفين وتحديداً الذين عارضوها بأسلوب حاد أو غير لائق أو الذين كالوا لها ولقيادة الحزب الاتهامات، مستخدمة عبارات من قبيل “فليلزم كلٌّ حدَّه” أو “هذا باب الحزب لمن لا يشعر بالانتماء للحزب”، واصفة من حاولوا تضييق صلاحياتها في اختيار قائمة المرشحين للبرلمان بـ “غير المحترمين”.
وعليه، يفتح المؤتمر الثالث للحزب الجيد مرحلة جديدة فيه، عناوينها الرئيسة انتهاء تحالف الطاولة السداسية، وتعزيز السياسات المستقلة للحزب، وزيادة قوة أكشنار في رئاسته، ما يعني في نهاية المطاف أن اكشنار خرجت من الانتخابات ثم المؤتمر أقوى مما كانت عليه قبلهما.
وعليه ستكون الانتخابات المحلية المقبلة محطة مهمة لاختبار كل ذلك. صحيح أن أكشنار لم تعلن رسمياً وعلناً الخروج من تحالف الشعب ونهاية الأخير ما يترك الباب موارباً على تفاهمات أو تحالفات مختلفة مستقبلاً، لكن مؤدى كلمتها يقول بذلك، خصوصاً وأنه كان صدر عن قيادات في حزبها ما يعبر عن ذلك. أكثر من ذلك، فقد كان لافتاً جداً عدم دعوة أحزاب التحالف للمؤتمر الذي بقي داخلياً محضاَ، وتضمن خطابها فيه ما يشي بعدم رغبتها في التعاون مع حزب الشعب الجمهوري في الانتخابات البلدية المقبلة، حين انتقدت التصريحات التي قالت إن حزب الشعوب الديمقراطي كان السبب في الفوز ببلدية إسطنبول في 2018 متمنية “التوفيق” لأصحاب هذا الرأي في المستقبل.
لذا نقول إن الحزب الجيد إن اختار تقديم مرشحيه الذاتيين في الانتخابات المحلية المقبلة وخصوصاً في إسطنبول سيرجح كفة العدالة والتنمية فيها إلى حد كبير وقد يكون سبباً في فوزه بها مجدداً، إذ كان أحد أهم أسباب خسارته فيها هو التحالف الذي واجهه. ولذلك نقول إن الانتخابات البلدية بعد ثمانية أشهر من الآن ستكون محطة مهمة لتقييم الحزب الجيد وتحالف المعارضة والعدالة والتنمية على حد سواء، خصوصاً وأن الأحزاب الكبيرة ستكون قد نظمت بدورها مؤتمراتها العامة حتى ذلك الحين.