تركيا تغلق باب الانقلابات وتفتتح عهداً جديداً

عاشت تركيا في الخامس عشر من تموز/يوليو الفائت ليلة من أسوأ وأصعب وأحلك ليالي تاريخها المعاصر، لكنها خرجت منها أقوى وأمتن وأقدر على صناعة مستقبلها بفضل استثنائية اللحظة واستثنائية التعامل معها، والذي فتح فرصاً لا محدودة للقيادة التركية ومن خلفها الشعب التركي على عدة مستويات، فتحول ذلك التاريخ خلال ساعات قليلة فقط من مساحة أن يكون “ذكرى الانقلاب عام 2016” إلى مساحة “ذكرى شهداء 15 تموز/يوليو” كما أعلن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان.

 

تطورات غير مسبوقة

ليست تركيا غريبة على الانقلابات العسكرية وهي التي عانت منها أربع مرات، اثنتان منها على شكل انقلاب عسكري فظ ومباشر، لكن المحاولة الانقلابية الأخيرة الفاشلة حملت عدة متغيرات على مستويات التخطيط والتنفيذ والمتورطين.

في كل انقلاب سابق، كانت جموع الشعب تستيقظ ذات صباح لتجد الجيش وقد انتشر في شوارع وميادين المدن الكبيرة بعد أن غيَّب القيادة السياسية والأمر قد حسم فعلاً لمصلحته، فلا تظاهرات ولا معارضة ولا مقاومة ولا مواجهات في الشارع بين الشعب والجنود. بيد أن المحاولة الأخيرة أودت بحياة أكثر من 200 شخص حتى وقت كتابة هذه السطور الكثير منهم قضى دهساً تحت جنازير الدبابات أو بقصف مباشر من المروحيات العسكرية للمتظاهرين فضلاً عن إطلاق النار المباشر.

ولأول مرة أيضاً يُقصف مجلس الشعب التركي الكبير (البرلمان) والذي يعتبر رمزاً للجمهورية التركية وحرب الاستقلال وسيادة الشعب، كما قصفت جل مؤسسات الدولة من القصر الرئاسي إلى رئاسة هيئة الأركان إلى مقر المخابرات. أيضاً شمل الانقلاب بادرة بالغة الخطورة في دلالاتها وهي محاولة اغتيال الرئيس ورئيس جهاز الاستخبارات وفق بنود الخطة في حال عدم القدرة على اعتقالهما، وهو تطور له انعكاساته المستقبلية بطبيعة الحال حتى بعد فشل الانقلاب.!!

 

منظومة إفشال الانقلاب

لكن الاختلاف عن الانقلابات الأربعة السابقة لم يكن حصراً على جهة الانقلاببين، بل شمل أيضاً الجهات الأخرى التي عارضته وقاومته بضراوة حتى أفشلته. لم تشهد تركيا إفلاساً اقتصادياً أو انسداداً سياسياً أو احتراباً أهلياً أو استقطاباً حاداً كما كان يحصل – ذاتياً أو افتعالاً – قبيل كل انقلاب سابق، كما أن المكانة التي وصلت إليها تركيا واستقرارها السياسي والاقتصادي حرم المجموعة الانقلابية من أي تعاطف شعبي أو حزبي أو سياسي فضلاً عن التواطؤ والمشاركة، وتركتهم كمجموعة شاذة عن الإجماع التركي ومرفوضة من الشعب ونخبه وأحزابه ومؤسسات مجتمعه المدني.

كل هذه العوامل – إضافة لدموية المحاولة الانقلابية في ساعاتها الأولى – أشعرت مختلف الأطراف بفداحة جرم من وقفوا خلفها فدفعتهم للمواجهة لإفشالها وإنقاذ مستقبل البلاد من المخاطر التي كانت على وشك الغرق فيها. فقد اندفعت جماهير الشعب لمواجهة المجموعات المسلحة التي انتشرت في بعض المناطق الحساسة والمؤسسات المهمة مثل الجسور ومديرية الأمن والمطار في إسطنبول والبرلمان ورئاسة هيئة الأركان والقصر الرئاسي في أنقرة، سيما بعد ظهور الرئيس التركي على إحدى القنوات الخاصة لدعوة الناس للنزول للشوارع والميادين “لحماية الديمقراطية”، وقدم المتظاهرون صوراً بديعة من الشجاعة والتضحية في مواجهتهم.

كما كان لأحزاب المعارضة دور محوري في سحب الذريعة السياسية من الانقلابيين، بعد خسارتهم للذريعة الشعبية والحاضنة الجماهيرية، من خلال مواقفهم الرافضة لتدخل العسكر والداعمة للديمقراطية والحياة السياسية في البلاد، كما كانت وسائل الإعلام – سيما الخاصة منها – منابر للقيادات التركية للتواصل مع الشعب وتوجيهه.

بيد أن العامليْن الحاسمَيْن في إفشال الانقلاب كانا الموقف الراسخ لاردوغان وثباته وتوجيهه للناس في العلن وإدارة المواجهة من وراء الكواليس، والعناصر الأمنية والشرطية والاستخباراتية مع بعض وحدات الجيش التي واجهت بالسلاح وفي الميدان وقدمت تضحيات كبيرة استطاعت إيقاف المد الانقلابي في الساعات الأولى ثم قلبت دفة الأحداث في الساعات والأيام اللاحقة.

 

الفرصة الذهبية

رغم كل ما تخللته من خسائر بشرية واقتصادية وسياسية، تنطوي المحاولة الانقلابية على فرص عظيمة بالنسبة للقيادة التركية – ومن خلفها الشعب – باعتبارها لحظة “ثورية” تتيح إمكانية انتهاج سياسات استثنائية لم تكن ممكنة في ظل الدستور والقوانين الاعتيادية.

ففي المقام الأول، تبدو لحظة انكسار الانقلاب بفعل صمود القيادة السياسية واحتضان الشعب لها وتوحد الأحزاب السياسية إلى جانبها فرصة لا يمكن التهويل من أهميتها لغلق الباب تماماً ونهائياً على فكرة الانقلاب مرة أخرى في تركيا. إن هذا الإجماع السياسي – الحزبي – الجماهيري – الإعلامي قد أعلن بشكل واضح أن تركيا 2016 ليست تركيا القرن الماضي، وأن جموع الشعب والنخب – رغم معارضتهم للعدالة والتنمية – لا يمكن أن يسمحوا بالانقضاض على مكتسبات تركيا في السنوات الماضية، إذ يشعرون أنهم – خصوصاً المواطنين – قد ساهموا في صنع ما وصلت إليه تركيا من منجزات، كما شعرت الأحزاب السياسية أن الانقلاب كان سيتم على مجمل الحياة السياسية – وهي جزء منها – وليس فقط على الحزب الحاكم والحكومة والرئيس.

أكثر من ذلك، يبدو السقف الشعبي أعلى بكثير من السقف الرسمي فيما يتعلق بمعاقبة الانقلابيين، حيث تطالب جموع الشعب بإعادة تقنين عقوبة الإعدام لمن نفذوا الانقلاب، وهو ما عرض تركيا لضغوط غربية شديدة سيما من الاتحاد الأوروبي. بيد أن الأمر دونه عدة عقبات قانونية وإجرائية وسياسية، في مقدمتها الحاجة للتعاون مع المعارضة لإقرار الأمر باعتباره تعديلاً دستورياً يحتاج إلى تأييد ثلثي البرلمان لإقراره أو على الأقل نسبة %60 لعرضه على الاستفتاء الشعبي وتأثيره السلبي على علاقة أنقرة بالاتحاد الأوروبي الذي وقعت معه عدة بروتوكولات تفرض عليها إلغاء العقوبة فضلاً عن الجدل القائم حول إمكانية تطبيق أي تعديل دستوري بأثر رجعي على هذه المجموعة الانقلابية. ورغم كل ذلك تؤكد القيادة التركية أن هذا النقاش يحسمه الشعب وممثلوه في البرلمان وليس قادة الاتحاد الأوروبي أو الدول الحليفة والخصمة.

كما أن الدور القيادي الذي اضطلع به اردوغان ومن خلفه الحكومة التركية قد أعطاه زخماً شعبياً وثقة ومصداقية تضاف لقناعة المواطنين التي تبلورت بحجم حملة الاستهداف، وهو ما قد يشجع القيادة التركية على استثمار هذه الشعبية في طرح فكرة الدستور الجديد والنظام الرئاسي في البلاد على المدى المتوسط أو البعيد، سيما وأنه يراه ركيزة أساسية في منظومة تحصين الحياة السياسية التركية ضد الانقلابات في المستقبل.

 

السياسة الخارجية

أخيراً، لا شك أن الحدث الكبير الذي هز تركيا في العمق سيكون له انعكاساته على سياستها الخارجية وفق عدة محددات، أهمها:

أولاً، لا شك أن جل التركيز التركي سيكون منصباً خلال الأسابيع الأولى على المشهد الداخلي بما في ذلك ضبط الوضع الأمني وضمان منع أي اضطرابات أو خطط بديلة وارتدادية للانقلابيين ومكافحة التنظيم الموازي واستكمال التحقيق بسرعة في ظل حالة الطوارئ التي أعلنت، وهذا يعني أن أنقرة ستكون أكثر انكفاءاً على داخلها وأقل تأثيراً في السياسة الخارجية بطبيعة الحال.

ثانياً، إن الانقلاب وإن فشل فقد حمل رسالة لأنقرة على مدى الاستهداف الخارجي الذي لولا دعمه أو ضوئه الأخضر بالحد الأدنى لما كان الانقلاب، وبالتالي فهذه الرسالة الواضحة ستستوجب رداً من القيادة السياسية التركية، وهو رد سيتحدد بدرجة كبيرة وفق مدى قوة الجبهة الداخلية ومتانتها وتماسكها.

ثالثاً، قد يكون لأنقرة رد فعل حاد تجاه بعض الدول أو القوى الصغيرة التي تردد أن لها دوراً في التخطيط للانقلاب أو دعماً له، إذا ما ثبت ذلك.

رابعاً، ليس من المنتظر أن يكون لتركيا موقفاً حاداً جداً على مستوى القطيعة مع القوى الكبرى حتى وإن ثبت أن لها يداً في المحاولة الانقلابية، إذ لا تملك أنقرة أدوات ذلك حتى ولو اعترتها الرغبة العارمة والحاجة الملحة.

خامساً، ثمة خصوصية للعلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، أولاً باعتبارهما شريكين استراتيجيين، وثانياً للدور الافتراضي لواشنطن فيما يتعلق بالانقلاب الذي كان لقاعدة “إنجيرليك” العسكرية الاستراتيجية دور مهم في مساندته ودعمه بالطائرات ولوجستياً، وثالثاً بسبب زعيم تنظيم الخدمة فتح الله كولن المقيم في بنسلفانيا والذي تتردد الولايات المتحدة في تسليمه لتركيا وتطلب قبل ذلك “أدلة دامغة لا مجرد ادعاءات” وفق تصريح وزير خارجيتها.

إذن، تبدو تركيا في طور وعهد جديدين، يمكن أن يفتحا لها أبواباً كثيرة تزيد من استقرار البلاد ومتانة جبهتها الداخلية وحياتها السياسية ويسدلا الستارة على مشاهد الانقلابات العسكرية فيها، إذا ما استطاعت القيادة التركية أن تدير المرحلة بالحكمة والتوازن والحسم والسرعة المطلوبين منها في هذه الفترة الحرجة الأشبه بحقل الألغام. ساعتها، وساعتها فقط، ستكون أهداف “تركيا الجديدة” 2023 أقرب من أي وقت مضى لتركيا وقيادتها وشعبها.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

انقلاب 15 تموز/ يوليو ومستقبل تركيا

المقالة التالية

العلاقات التركية - الروسية بعد الانقلاب

المنشورات ذات الصلة