تركيا: الانتخابات تفاقم أزمة حزب الشعب الجمهوري
TRT العربية
كما كان متوقعاً ألقت نتائج الانتخابات الأخيرة بظلالها على حزب الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة التركية، وقد جمع التيار المعارض داخل الحزب بقيادة مرشحه للانتخابات الرئاسية محرم إينجة – وفق ما أعلن – العدد المطلوب من التوقيعات لعقد مؤتمر استثنائي له لتغيير رئيس الحزب، لكن قيادة قيادة الحزب اعتبرت أن التوقيعات المطلوبة غير كافية عددياً ولذلك فقد أعلنت عن عدم عقده.
ذلك أن النظام الداخلي للحزب يشترط جمع تواقيع أكثر من نصف عدد أعضاء الهيئة العمومية لعقد مؤتمر استثنائي له لانتخاب رئيس وقيادة جديدتين، وهو ما يوازي 622 مندوباً من الأعضاء، غير أنه يعطي قيادة الحزب إمكانية وصلاحية التدقيق في هذه التوقيعات والتقرير في مدى صحتها.
وعليه، فقد أعلن التيار المعارض تقديم 630 توقيعاً مصدّقة عند الكاتب بالعدل، وفي نهاية عملية التدقيق التي نفذتها قيادة الحزب، أعلن الناطق باسمه أن عدد التوقيعات 569 فقط، بعد حذف بعض التوقيعات غير الصحيحة وبعضها الآخر المكرر وتراجع بعض الأعضاء عن توقيعاتهم المطالبة بالمؤتمر الاستثنائي. ولذلك فقد اتهم المعارضون رئيسَ الحزب كمال كليتشدار أوغلو وفريقه بالضغط على الموقّعين وعدم الشفافية في تقييم التوقيعات، فضلاً عن صم الآذان على مطالبات التغيير داخل الحزب والتي تبدو في ازدياد مضطرد عاماً بعد عام.
ذلك أن ما يأخذه هؤلاء على كليتشدار أوغلو أنه عاجز عن منافسة اردوغان والعدالة والتنمية منافسة حقيقية فضلاً عن هزيمتهما، بعد أن سجل في الانتخابات الأخيرة الهزيمة التاسعة على التوالي أمامهما. كما أن تجاهل رئاسة الحزب لهذا العدد الكبير من المطالبين بالتغيير والمؤتمر الاستثنائي – حتى ولو صح عدم وصولهم للنصف – وضعها في موقف حرج أمام كوادر الحزب وأنصاره، حيث وصفها التيار المعارض بأنها “تطالب بالديمقراطية في تركيا، لكنها غير ديمقراطية داخلياً”، مستنكراً تجاهل الدلالات الواضحة لهذا العدد الكبير من الموقعّين، والذي يبدو في ارتفاع ملحوظ عن المرات السابقة.
ولامتصاص الغضب، يبدو أن كمال كليتشدار أوغلو سيحاول أن يقدم رسالة تغيير في الحزب من خلال تغيير عدد من مساعديه والناطق باسم الحزب قريباً كما رَشَح، ولكن ذلك لا يبدو كافياً لتهدئة الأوضاع في الحزب، بل قد يكون بعض هؤلاء المساعدين طلبوا الاستقالة بأنفسهم احتجاجاً على تعامل رئاسة الحزب بهذه الطريقة.
مقاربة كليتشدار أوغلو ورئاسة الحزب تقول إن البلاد مقبلة على انتخابات بلدية في آذار/مارس القادم، أي بعد حوالي سبعة أشهر، وبالتالي ينبغي على الحزب أن يركز على كيفية الفوز بها وليس الانشغال بمؤتمر استثنائي داخلي بسبب “طمع البعض بكرسي الرئاسة”، والمقصود هنا هو محرم إينجة نفسه. ويبدو أن نفس التهمة أي “تعريض مصالح الحزب للخطر بسبب الحرص على الكرسي” هي نفسها ما يوجهه إينجة وتياره لكليتشدار أوغلو بعد كل ما حصل.
فما هي خيارات هذا التيار المعارض الآن؟
ثمة تسريبات تحدثت عن احتمالية خروج المعارضين وانضمامهم لحزب اليسار الديمقراطي وتشكيل كتلة برلمانية باسمه، لكنني أرى أنه احتمال ضئيل ولا أراه واقعياً في الوقت الحالي، خصوصاً في ظل فشل تجربة حزب “الأناضول” الذي أسسته أمينة أولكر تارهان في 2014 بعد انشقاقها مع مجموعة قيادية من الحزب. كما يبقى لاسم “الشعب الجمهوري” سحره وتأثيره، وبالتالي فالصراع هو بالأصل على رئاسته قبل أي شيء آخر، ولعل تصريح إينجة الذي ذكر فيه بأن “مسيرة النضال مستمرة” داخل الحزب يصب في هذا الاتجاه.
قيل في التسريبات الإعلامية إن التيار المعارض قد يلجأ إلى “مسيرة ديمقراطية” على غرار تلك التي قام بها كمال كليتشدار أوغلو نفسه العام الفائت احتجاجاً على سياسات الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية، لكنها تبقى خطوة رمزية غير مفيدة ولذا فهي غير مرجحة. كما ذكرت بعض وسائل الإعلام أن الأمر يمكن أن ينتقل للقضاء، أن أن يشكك التيار المعارض في قرار الرئاسة ويطلب فصل القضاء في الأمر، وهو أمر أيضاً لا أرشحه أولاً لأنه ليس من تقاليد الحزب وثانياً لأنه تجربة التيار المعارض داخل حزب الحركة القومية مع القضاء لم تكن مشجعة. ويبدو أن إينجة ومن معه لا يريدون التوجه للقضاء خوفاً من تصدعات غير مرغوب بها داخل الحزب، وقد نـُقل عن أحد قيادات هذا التيار قوله ما معناه إنهم “لن يشتكوا قيادة حزب أتاتورك أمام قضاء اردوغان”.
ولذا، فالمرجح هو أن تستمر المعارضة داخل الشعب الجمهوري في تنظيم نفسها وترتيب أوضاعها في انتظار فرصة أكثر مناسبة للعودة مرة أخرى لمسار المؤتمر الاستثنائي، إما بمحاولة إقناع أعضاء آخرين في الهيئة العمومية لتأمين العدد المطلوب أو بطلب مؤتمر استثنائي خاص بتعديل النظام الأساسي للحزب وليس لانتخاب رئيس جديد وهو أمر يتطلب توقيع %20 فقط من الأعضاء وبالتالي فهو في أيديهم ويمكن أن يتم قريباً.
المحطة الأهم التي ينتظرها هذا التيار هي الانتخابات البلدية/المحلية في مارس القادم، والتي ستكون – إذا ما بقيت الأحوال على ما هي عليه – الخسارة العاشرة على التوالي للحزب بقيادة كمال كليتشدار أوغلو وبالتالي ستقوّي من موقف معارضيه، كما أن ذريعة عدم الإضرار بالحزب قبيل الانتخابات ستكون قد نزعت من يد رئاسة الحزب وبعض من تراجعوا عن توقيعاتهم. ولذلك تبدو نتيجة الانتخابات المقبلة محدداً رئيساً في تقرير مستقبل كلتشدار أوغلو ومسار الحزب مستقبلاً، خصوصاً لجهة حسم الصراع على رئاسته وبقائه موحداً ومتماسكاً على المدى البعيد.
وعليه، فرغم أن قيادة الحزب تعتبر أن الأزمة انتهت بعدم وصول المعارضين للعدد المطلوب وبالتالي رفض فكرة عقد المؤتمر الاستثنائي، إلا أن الواقع يقول بعكس ذلك وبأن المشهد الداخلي للحزب كقدر يغلي ومفتوح على تحولات مهمة في المستقبل القريب، لكن الدلالة الأبرز اليوم هي أنه لم يعد على قلب رجل واحد وأنه سيخوض الانتخابات المقبلة – على أهميتها – منقسم الصفوف مشتت الذهن بخلافاته الداخلية.