تركيا إذ تحاول منع انتقال الحرب الأوكرانية للبحر الأسود
الجزيرة نت، 20 آب/أغسطس 2023
مع تطورات الحرب الروسية – الأوكرانية تبدت في الآونة الأخيرة بعض الإشارات المقلقة بخصوص إمكانية انتقال الحرب لحوض البحر الأسود، وهو ما لا تريده تركيا وتسعى لتجنبه.
مؤشرات مقلقة
الم يكن اتفاق تصدير الحبوب عبر ممر مائي في البحر الأسود العام الفائت بوساطة تركية ورعاية أممية مجرد اتفاق اقتصادي يسعى لتأمين احتياجات العالم من الحبوب والمواد الغذائية وضبط الأسعار العالمية وحسب، ولكنه كان من زاوية ما مبادرة لنزع فتيل اشتعال حوض البحر الأسود كجبهة إضافية في الحرب الروسية – الأوكرانية.
فالاتفاق أوجد آلية للتعاون – غير المباشر – بين موسكو وكييف في مجالات غير حربية ومنع احتكاكات محتملة بين الجانبين فيما يتعلق بالسفن التجارية من وإلى الموانئ الأوكرانية. ولذلك فقد كان تجميد روسيا مشاركتها في تطبيق الاتفاق اكثر من مرة مؤشراً على احتمال حصول احتكاكات من هذا النوع من الجانبين المتحاربَيْن، ولذلك أيضاً كان إعلان الانسحاب في تموز/يوليو الفائت إيذاناً بقرب هذا النوع من الأحداث إذ أن غياب التعاون لا يفتح الباب فقط على الاحتكاكات غير المقصودة ولكن كذلك على التحدي والاستفزازات واستهداف الآخر.
ولئن قالت كييف على لسان أكثر من مسؤول إن التصدير يمكن وينبغي أن يستمر ولو بدون مشاركة موسكو وضماناتها الأمنية وسعت في هذا المسار فعلياً، كما أكد أكثر من مسؤول اوكراني إن هذا هو “المسار الأسهل والأسرع والأكثر أمناً” لتصدير الحبوب، فإن ذلك لا ينفي المخاطر المذكورة.
هذا المعنى أكدت عليه التصريحات الروسية بعد قرار الانسحاب، إذ قال الناطق باسم الكرملين ديميتري بيسكوف إنه “في غياب ضمانات أمنية مناسبة تظهر مخاطر معينة، وإذا ما أقرَّ شيء بدون روسيا، فينبغي أخذ هذه المخاطر في الحسبان”. كما أبلغ وزير الخارجية الروسي نظيره التركي بأن انسحاب بلاده سحب الضمانات الأمنية للملاحة ما يجعل شمال غرب البحر الأسود “منظقة خطرة مؤقتاً لعبور السفن”.
أكثر من ذلك، فقد قصفت روسيا ميناءً لتخزين الحبوب في منطقة أوديسا في رسالة مباشرة أو تطور غير مباشر يمكن فهمه كتحذير بخصوص المخاطر التي يمكن ان تنشأ عن التصدير بدون تفاهم أو ضمانات.
الرسالة الروسية الأبرز مؤخراً كانت تفتيش سفينة تجارية في البحر الأسود للتأكد من عدم نقلها أسلحة لأوكرانيا بعد إطلاق طلقات تحذيرية تجاهها، وتلميح موسكو بعزمها تفتيش أي سفينة تقصد الموانئ الأوكرانية مستقبلاً بنفس الذريعة. فهمت الخطوة الروسية كرد على أوكرانيا وتحذير لها من مغبة محاولة التصدير أو تشجيع الملاحة دون التوافق معها، وهو أمر يفتح الباب كما هو واضح على احتكاكات محتملة ومن الطابع العسكري تحديداً.
من جهة ثانية، تحمل دعوة كييف لتنشيط حركة الاستيراد والتصدير بدون ضمانات أمنية من موسكو محاولة من الأولى لاستدراج حلف الناتو للانخراط أكثر في الحرب في مواجهة روسيا وعدم الاكتفاء بالدعم والتسليح عن بعد، وهو أمر لا يحتاج للتدليل على مخاطر احتمالاته المستقبلية. يضاف لكل ذلك استهداف أوكرانيا لشبه جزيرة القرم بشكل متكرر بما ينذر بتفاقم التطورات في حوض البحر الأسود بشكل مستمر.
دور تركيا
بالنظر لكل ما سبق، فإن احتمال حصول تصعيد أو احتكاك عسكري بين روسيا وأوكرانيا في البحر الأسود أعلى اليوم مما كان عليه في أي وقت مضى، وإن كان هذا الاحتمال ما زال ضعيفاً وفق المعيطات الحالية. لكن مجرد وجود هذا الاحتمال وارتفاع حظوظه عن السابق أمر مقلق لأنقرة التي حاولت وما تزال تجنب هذا النوع من السيناريوهات.
فقد قررت تركيا منذ بداية الحرب الروسية – الأوكرانية الحفاظ على موقف متوازن قدر الإمكان منها، وهو موقف يمكن وصفه بـ “الحياد الإيجابي”، حيث شجبت الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية لكن دون استعداء موسكو ودون الانخراط في العقوبات الغربية عليها، محافظة على علاقات جيدة مع الجانبين وهو ما أهلها لاحقاً للعب دور الوساطة بينهما وتحقيق بعض الاختراقات المهمة مثل جمع وزيري خارجيتهما على طاولة التفاوض والحوار واتفاق تصدير الحبوب وتبادل الأسرى.
ورغم الضغوط التي تعرضت لها تركيا من الجانبين وخصوصاً حلف الناتو والولايات المتحدة إلا أنها استطاعت الحفاظ على هذا التوازن النسبي والعلاقات الجيدة مع الطرفين، إلا أن ذلك اختل مؤخراً بشكل نسبي.
فقد أدى تسليم أنقرة زيلينسكي الضباط الأوكرانيين ثم إحالتها ملف انضمام السويد للناتو للبرلمان إلى موقف متشنج من موسكو تجاهها، تجلى في انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب ثم تأجيل بوتين زيارة كانت مجدولة له لتركيا ثم تفتيش سفينة تجارية – تعود لشركة تركية – كانت تقصد أوكرانيا في البحر الأسود بعد إطلاق طلقات تحذيرية نحوها.
بناء على ما سبق، ورغبة في نزع فتيل التوتر في البحر الأسد على وجه التحديد، تولي أنقرة اهتماماً لزيارة الرئيس الروسي المزمعة لها، وقد بحث أردوغان ذلك مع الأخير في اتصال حصل بينهما مؤخراً. ورغم أن الجانب التركي تحدث عن الزيارة بصيغة “المرتقبة” بينما وصفها الجانب الروسي بـ “المحتملة” بما يؤكد وجود فتور في العلاقات بين الجانبين، إلا أننا نرجح حصول الزيارة بعد تأجيلها الفترة الماضية، ولعلها تتم في نهايات الشهر الجاري أو بدايات الشهر المقبل.
الزيارة التي ستتخللها قمة بين الرئيسين ستتناول ولا شك مروحة واسعة من الفات المهمة بين البلدين مثل عودة روسيا لاتفاق تصدير الحبوب والملف السوري بعمومه بما في ذلك العلاقات بين أنقرة والنظام السوري، والعلاقات الثنائية بما في ذلك الاقتصاد وملف الطاقة، ولكن ما يتعلق بالبحر الأسود سيحظى بترتيب متقدم على جدول أعمال الزيارة ولا شك. وهنا سيعتمد أردوغان على الأوراق التي تملكها بلاده من جهة والعلاقة الشخصية التي تربطه مع بوتين من جهة ثانية لإقناع الأخير بالعودة لاتفاق تصدير الحبوب، ليس فقط من الزاوية الاقتصادية والتجارية ولكن كذلك لتجنب السيناريوهات العسكرية المحتملة في البحر الأسود.
بشكل واضح ومعلن، لا تريد تركيا أي تصعيد في البحر الأسود إذ قد يحوّل ذلك حوضَ الأخير لجبهة إضافية للحرب من جهة، ويمكن أن يدفع نحو صدام مباشر بين روسيا والناتو، بما يعرّض أمن تركيا القومي للخطر ويضعها أمام خيارات صعبة، أصعب من التي تواجهها حالياً.
التحدي الأول، في حال حصول صدام عسكري بين روسيا وحلف الناتو، سيتعلق باستخدام تركيا صلاحياتها بخصوص المضايق وفق اتفاقية مونترو (1936) لا سيما وأنها لم تعد الدولة الوحيدة عضو الحلف المطلة على البحر الأسود كما كان الحال خلال الحرب الباردة.
وأما التحدي الثاني، وفق سيناريو من هذا النوع، فسيتمثل بكيفية نظر الحلف لتصعيد – محتمل – مع موسكو ومدى انطباق المادة الخامسة من نظامه الأساسي على تلك الحالة، وهي المادة التي تتحدث عن دفاع أعضاء الحلف عن أي دولة عضو تتعرض لهجوم. وإذا ما تذكرنا أن أبرز ملامح الموقف التركي من الحرب الروسية – الأوكرانية هو تجنب الانخراط بها تورطاً او استدراجاً، فهمنا بأي عين تنظر أنقرة للتطورات الأخيرة واحتمالاتها المستقبلية.
ولذلك، ستكون زيارة بوتين المحتملة لتركيا فرصة مهمة للأخيرة لتضييق الفرص على خيار من هذا النوع، وبوابة ذلك بالنسبة لأنقرة تتمثل في إقناع الرئيس الروسي بعودة بلاده لتفاق تصدير الحبوب، إذ من شأن ذلك تجنيب البلدين الاحتكاك في البحر الأسود وعودة الاستقرار لحوض الأخير، وعودة البلدين المتحاربين لمسار من التعاون غير المباشر من خلال أنقرة نفسها.
مسار كهذا يبدو صعباً وفق المعطيات الحالية وما صدر عن موسكو في مواقف وتصريحات خلال الأسابيع القليلة الفائتة، لكن أنقرة تبدو متفائلة بقدرتها على إقناع موسكو بتحقيق اختراق من هذا القبيل، لا سيما وأن البلدين لهما سوابق في إبرام تفاهمات جنبتهما الصدام في كثي من المواقف الصدامية بينهما.
في حال تمت الزيارة، وهو ما نتوقعه، ولو متأخرة، قد لا ينتج عنها إعلان مباشر عن عودة روسيا لاتفاق تصدير الحبوب، لكنها ستؤسس لأرضية ممكنة من النقاش والتفاوض للوصول لاحقاً لتفاهم من هذا النوع – بعد إقرار بعض المطالب الروسية – أو تطوير الاتفاق أو تعديله. ويزيد من فرص هذا التقدير أن أنقرة لم تتفاعل إيجاباً مع الطرح الأوكراني الذي دعا للتصدير بدون روسيا وضماناتها الأمنية وتأكيدها على ضرورة وأهمية إشراك روسيا في أي عملية تصدير. أما بقاء الموقف على ما هو عليه اليوم، فما زال ينذر بما لا تريده تركيا لحوض البحر الأسود الذي حافظت على أمنه بشكل لافت حتى اللحظة.