تحديات مستجدة أمام قيادة حماس الجديدة
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
استأثرت الوثيقة السياسية التي أصدرتها حركة حماس بمعظم النقاش المتعلق بها كحركة على الساحة الفلسطينية، رغم أنها مرت باستحقاق لا يقل أهمية عن الوثيقة، وهو الانتخابات التي أجرتها مؤخراً وكان عنوانها الأبرز التغيير، حيث انتخب اسماعيل هنية خلفاً لخالد مشعل لرئاسة ما اصطلح على تسميته بالمكتب السياسي لها.
الخطوة والفاعل والهدف أو الانتخابات وحماس والقضية الفلسطينية يعكسون أهمية استثنائية، ويفترض أن تكون محطة مهمة كهذه فرصة لمراجعة دقيقة للفترة الماضية استخلاصاً للدروس ولاستشراف تحديات المرحلة المقبلة استعداداً لها.
تواجه حماس، باعتبارها حركة تحرر وطني تواجه احتلالاً وتسعى للتحرير، تحديات دائمة ومستمرة تشمل كل مفردات القضية الفلسطينية ومجالاتها، مثل المواجهة العسكرية مع الاحتلال وحصار غزة واستهداف الضفة وتهويد القدس وقضية الأسرى الذين يخوضون منذ أكثر من شهر معركة “إضراب الكرامة” في سجون الاحتلال والأزمة المالية والمتغيرات الإقليمية وغيرها من التحديات. إلا أن المقصود في هذا المقال تحديات لم تكن مفروضة على الحركة قبلاً بنفس المستوى بل زاد من أهميتها وحساسيتها التغير القيادي في الحركة الأهم على الساحة الفلسطينية.
وهذا التغير القيادي بحد ذاته أول التحديات الكبيرة التي ستواجهها الحركة في المرحلة الحالية. ذلك أن “انتقال السلطة” في حركات التحرر الوطني ليس أمراً اعتيادياً ولا سهلاً، سيما حين يكون الانتقال من “قيادة تاريخية” إلى “الجيل الثاني” إن جاز التعبير. وتزداد هذه التحديات بطبيعة الحال بالنظر لقائد المرحلة السابقة – خالد مشعل – بما مثله من حالة إجماع وكاريزما وإنجازات وطول فترة قيادته والمحطات المهمة والصعبة التي مرت بها الحركة خلال قيادته.
بهذا المعنى، يصبح الانتقال تحدياً مهما ً بذاته كما يضاعف من وقع وتأثير التحديات الأخرى. فهو ليس مجرد تغيير للشخص بل لنمط القيادة، كما يحيل إلى عملية “التغيير” في مجمل قيادة الحركة، إذ نحن إزاء حركة ثورية مقاوِمة مسلحة في المشرق العربي وبالتالي فرغم كل ما يقال عن مؤسسية حركة حماس (وهو أمر صحيح نسبياً) إلا أنه تبقى للقائد بصمته ورؤيته وطريقته في الإدارة والعمل واختيار الأشخاص، وكل ذلك يلقي بظلاله بطبيعة الحال على الحركة وبالتالي على القضية الفلسطينية.
ويطرح هذا التحدي، بالتالي، ضرورة تعزيز الحالة المؤسسية لدى الحركة وتحصين مشهدها الداخلي وبنيتها التنظيمية من حيث اللوائح والقوانين والتقاليد وآليات العمل لتبقى كما يجب أن تكون: حركة تحرر وطني تعمل للتحرير على مبدأ التضحية والتنافس في العمل والزهد في المناصب وتساوي الفرص واختيار الأنسب لكل مهمة ومنصب، وهكذا – هكذا فقط – يتحول الجسم التنظيمي للحركة إلى قيمة مضافة وليس إلى بيروقراطية وعبء.
التحدي الثاني أمام الحركة هو توزعها – شخوصاً ومؤسسات وقيادة – في عدة مناطق ودول، أو ما يمكن تسميته بحق “لعنة الجغرافيا”. مما يُفهم من انتخابات حماس أنها موزعة على ثلاثة أقاليم هي غزة والضفة والخارج (الذي يتوزع بدوره على عدة مناطق ودول). هذا التوزيع الذي اضطرته ظروف وتداعيات عدة في مقدمتها الاحتلال، تفاعلت مع الزمن وأدت إلى حالة من التمايز النسبي بين هذه المناطق/الأقليم الثلاث على صعيد التحديات والهموم والاهتمامات والدور والقيادة.
وإذا كان الاحتلال معنياً بشكل واضح في تعميق هذا التمايز بين الأقاليم بحيث يتحول كل منها إلى شبه تنظيم قائم بذاته يكفيه التنسيق مع الأقليم/التنظيمات الأخرى، فإن من أوّل وأَوْلى واجبات حركة تحرر وطني كحماس هو معاندة تلك الخطة الصهيونية وإضعاف أي تأثيرات شخصية أو مناطقية أو من أي نوع على رؤية وسياسات الحركة، إلا ما تفرضه وتستوجبه حقائق القضية الفلسطينية ودور حماس كحركة تحرر.
ثمة تحد ثالث متعلق بما سبق، وهو ثنائية “الداخل والخارج” في الحركة، والتي يمكن أن تتعمق أكثر في المرحلة المقبلة في ظل ما أفرزته انتخابات الحركة. فمع التمايز بين الأقليم الثلاثة، ثمة تمايز آخر خرج نقاشُه للسطح أحياناً بين جسم التنظيم في الداخل (غزة والضفة) والخارج (خارج الجغرافيا الفلسطينية)، وهو نقاش له عدة مسوغات من أهمها كون حماس حركة مقاومة في الداخل الفلسطيني تاريخاً وواقعاً وتباين “قوتها” بين الداخل والخارج.
اليوم، ولأسباب وسياقات متعددة لا مجال لذكرها ونقاشها هنا، يبدو قطاع غزة كقلعة محصنة لحركة حماس إذ يجمع صفات لا تتوفر للضفة الغربية مثلاً فضلاً عن أن تحظى بها الحركة خارج فلسطين، مثل العدد/الكادر البشري والاستقرار التنظيمي والقوة العسكرية والثقل النوعي في ميزان العمل المقاوم. وهو تحد – مرة أخرى – مرشح للتفاعل مستقبلاً في ظل قيادة السنوار (بخلفيته العسكرية والأمنية) لقطاع غزة وقيادة هنية لكامل الحركة، وهو ما قد يعني انتفاء التوازن السابق الذي كان يضيفه “أبو الوليد” على قيادة الحركة وقرارها.
إن عدم قدرة هنية – وباقي القيادة في غزة – على الخروج من القطاع للمشاركة في انتخابات المكتب السياسي لحماس واكتفاؤهم بالمشاركة عن بعد يشير إلى مدى خطورة هذا العامل وأهمية دراسته بتروٍّ واتخاذ القرارات المناسبة إزاءه. فقائد الحركة يحتاج أن يتحرك بحرية لنسج العلاقات وحشد الدعم وشرح المواقف والتواصل مع مختلف الأطراف، ولا يجب أن يُترك قرار تحركاته رهناً بيد معبر رفح ومن يتحكمون بقرار فتحه وإغلاقه.
من المفهوم طبعاً أن فكرة البقاء داخل القطاع لها إيجابياتها بحيث تبقى القيادة قريبة من الشعب (الذي يعاني من الحصار) وعلى الأرض الفلسطينية بما يحرر الحركة من حرج استضافة أي بلد لها ومن الضغوط التي يمكن أن تمارس عليها بشكل مباشر أو غير مباشر. إلا أن “حبس” القيادة داخل القطاع سيضعها أيضاً تحت ضغوط النظام المصري من جهة والعدو الصهيوني وعدوانه من جهة أخرى، فضلاً عن أنه قد يؤدي لتضخم إضافي في حجم الاهتمام بالشأن “المحلي” لقطاع غزة – على أهميته – على حساب التوازن مع الأقاليم والاستحقاقات الأخرى.
وهناك تحد رابع كنت قد أشرت له سريعاً في بعض المقالات السابقة يرتبط بالعلاقة بين السياسي والعسكري داخل حماس، وقد عرضت سابقاً لعدة أمثلة تشير إلى هذه الجدلية التي قد تبدو ترفاً فكرياً بين يدي الحديث عن حركة مقاومة مسلحة في وجه مشروع احتلالي إحلالي، لكنها ليست كذلك.
فرغم أولوية بل واستثنائية العمل “العسكري” في حركة “مقاومة” إلا أنهما ليسا مترادفين تماماً، بل الأول جزء من الثانية كمنظومة شاملة متكاملة، يضرها طغيان أي جناح منها، سيما وأننا نتحدث عن عمل بشري يعتريه ما يعتري العمل السياسي في مختلف الأحزاب والتيارات وإن على تفاوت. إن تمركز القوة العسكرية لحماس داخل القطاع بشكل شبه حصري يفاقم من ثنائيات الداخل والخارج والسياسي والعسكري ويضاعف من تحدي الجغرافيا ويصعّب من التنسيق بين مختلف مؤسسات حماس، وبالتالي يحتاج هنية (والحركة) إلى تدارس الأمر بشكل منهجي وهادئ، بما في ذلك المكوث في الخارج – على تحدياته أيضاً – إن لم يكن متاحاً له التحرك بحرية بين غزة والخارج.
من التحديات السابقة أمام حماس والتي تحتاج أن تواجهها بشكل جدي وسريع علاقاتها الإقليمية، حيث فقدت مع متغيرات المنطقة “حلفاءها” السابقين دون أن يستطيع “أصدقاؤها” ملء ذلك الفراغ بنفس المستوى لأسباب كثيرة. وهنا، تبدو الحركة مكشوفة بطريقة غير مسبوقة في ظل اجتماع شتات “محور الاعتدال” العربي مجدداً واستهدافه لها، وتضعضع علاقاتها مع “محور الممانعة” كما كان يسمى في حينه، واحتفاظها بعلاقات أكثر من جيدة على المستوى السياسي مع دول إقليمية هامة لكن دون أن تحظى منها بكل ما تحتاجه حركة مقاومة تواجه الاحتلال الصهيوني.
والتحدي هنا مركب، إذ أن الأمر غير مرتبط بمواقف حماس نفسها كما قد يظن الكثيرون، فحتى إيران لم تعد قادرة – ولا راغبة برأيي – على تقديم نفس الدعم ونسج ذات العلاقات كما في السابق رغم كل محاولات رأب الصدع وتأطير العلاقة. في المقابل، فالأجواء الدولية والإقليمية ملبدة بأخبار زيارة الرئيس الأمريكي الجديد للمنطقة وحديث أركان إدارته عن “ناتو إسلامي” سيواجه “الإرهاب” وفق تصنيف ترمب وتوصيفه له، بما يزيد من تحديات الحركة في الإقليم والعالم.
في الخلاصة، إن جاز لي اختصار المقال والإجابة على مختلف التحديات بكلمة واحدة فستكون “التوازن”، وهو ما تحتاجه الحركة في بنيتها الداخلية وعلاقاتها وسياساتها وقراراتها. توازن بين السياسي والعسكري وبين الداخل والخارج وبين الأقاليم المختلفة وفي البنية التنظيمية وفي العلاقات والسياسات والقرارات، وهو تحد كبير – بحد ذاته – ولا شك، وليس قراراً يتخذ في لحظة بل هو عملية وصيرورة تحتاج لرؤية وقرار ابتداءً ولكن أيضاً للكثير من العمل والجهد والوقت كي تتحقق.
وفي هذا الإطار، ينبغي أن تولي الحركة اهتماماً خاصاً بالشعب الفلسطيني في الشتات، الذي لا يملك القوة العسكرية والعدد التنظيمي كما الداخل الفلسطيني، لكنه يضم أكثر من نصف الشعب الفلسطيني ورمزية اللجوء الذي يمثل شطر القضية إلى جانب احتلال الأرض. إن من أولى واجبات حماس كحركة تحرر وطني تقود مشروع المقاومة أن تكون هي رافعة، أو إحدى رافعات، الواقع الفلسطيني في دول الشتات، فيكون ثقله الاستراتيجي في ميزان القضية الفلسطينية هو معيار حضوره في الرؤية والقيادة والقرار وليس ثقله العددي أو إمكاناته الحالية وحسب. الواجب هو ما يجب أن يتقدم لا الواقع، بل يجب تغيير الواقع ليخدم الواجب ويبلور الرؤى ويحقق الأهداف.