لعل أكثر ما ميز فكر العدالة والتنمية وسياساته العملية منذ تسلمه الحكم عام 2002 كان نظرية “تصفير المشاكل” مع دول الجوار. فقد رأى داود أوغلو، مهندس السياسة الخارجية التركية وصاحب المساهمة الكبيرة في الخلفية النظرية للحزب، أنه لا يمكن لأي دولة أن تنمو وتتقدم وتلعب دوراً إقليمياً أو دولياً ناجحاً ما دامت تعاني من مشاكل ونزاعات كبيرة ومستمرة مع جوارها.
وحتى حين افترقت الطرق مع عدد من دول الجوار، مثل إيران وسوريا والعراق، على خلفية الربيع العربي عامة والثورة السورية خاصة، فقد حرصت أنقرة على حصر خلافها – الشديد – مع إيران تحديداً ضمن سقف معين، فلم تدعه يؤثر في العلاقات الاقتصادية، ولا سمحت بالانزلاق نحو التراشقات الإعلامية والتوترات الدبلوماسية، فضلاً عن أن يصل الأمر لمرحلة الصدام والمواجهة.
كما أن حجر الزاوية في السياسات التركية إزاء إيران كان تجنب أي نزاع على أساس طائفي أو مذهبي، لما له من آثار مدمرة على الدولتين والمنطقة عموماً، ولذلك فقد ابتعدت أنقرة عن التوصيف الطائفي للصراع وحصرته في أطره السياسية. إضافة طبعاً لأوراق القوة الإيرانية، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، إذ تشكل مع روسيا المَصدريْن الرئيسين لغازها الطبيعي.
ساهمت كل هذه العوامل وغيرها في إبقاء لهجة الخطاب التركي الموجه إلى طهران هادئة ومنخفضة السقف نوعاً ما رغم السياسات الإيرانية التوسعية، وما تسببه من أضرار للمنطقة عموماً والمصالح التركية خصوصاً، حتى في أصعب الظروف. لكن الأيام القليلة الماضية شهدت اختلافاً كبيراً في هذا الخطاب تمثل في التالي:
- حديث رئيس مجلس الشعب التركي عن أن سياسات الولايات المتحدة هي التي أدت إلى التمدد “الشيعي” في المنطقة.
- بيان وزارة الخارجية التركية حول عملية “عاصفة الحزم”، والتي دعت الحوثيين و”داعميهم الإقليميين” إلى الكف عن تهديد الأمن والسلام في المنطقة.
- تصريحات الرئيس التركي للتلفزة الفرنسية التي دعا فيها إيران إلى “سحب قواتها” من اليمن وسوريا والعراق.
ورغم أن التنافس الإقليمي بين البلدين سابق حتى على الثورة السورية، حيث يلعب كل منهما دور الموازن الإقليمي للآخر في آسيا الوسطى والقوقاز مثلاً، وتسابقا مراراً على احتواء حركات المقاومة الفلسطينية وسوريا في مرحلة معينة، إضافة إلى العمق الحيوي في شرق آسيا (باكستان وأفغانستان)، إلا أن هذه اللغة التركية خرجت فقط الآن، مما يدفعنا للبحث عن أسباب إضافية دفعت بهذا الاتجاه، أهمها:
أولاً، استشعار تركيا لأهمية وخطورة المرحلة الحالية التي تمر بها المنطقة، وهي مرحلة فوضى انتقالية ستعيد تشكيل المنطقة وموازنات القوة والنفوذ فيها، وسيتحدد موقع كل دولة بحسب ما تستثمره من عناصر القوة والمبادرة وفق استراتيجيتها الخاصة.
ثانياً، جنون القوة الإيراني الذي لم يعد يعبأ كثيراً بالانتقادات ولا يحسب حساباً لشيء، فاستمر بالتمدد في دول الجوار واحدة تلو الأخرى، ثم نقل الصراع إلى مستوى جديد بتجاوزاته الكبيرة في اليمن. وقد انعكس الغرور الإيراني على تصريحات عدد من المسؤولين الذين تحدثوا عن خضوع أربع عواصم عربية لإيران التي أصبحت “امبراطورية كبيرة عاصمتها بغداد”.
ثالثاً، المفاوضات الإيرانية مع دول (5 زائد 1) التي يبدو أنها شارفت على النهاية ويتوقع لها أن تنتج اتفاقاً نهائياً أو اتفاقاً إطارياً بين الطرفين، سيؤثر بكل تأكيد في التحالفات القائمة في المنطقة وتوازنات القوة فيها. سيما في ظل الفتور في العلاقات التركية الأمريكية وتجاهل الثانية للأولى في سياساتها المتعلقة بالمنطقة.
رابعاً، تلمس منهجية جديدة في السياسة الخارجية التركية مؤخراً تنحى لترك الاعتماد الكامل على القوة الناعمة والبحث عن مساحات وآليات القوة الخشنة ولو تدريجياً، كي لا تفقد القدرة على التأثير في الإقليم، وربما يكون الاتفاق الأخير للتعاون العسكري والصناعات الدفاعية ونشر القوات المتبادل مع قطر أحد أمثلة هذه المنهجية.
خامساً، عملية “عاصفة الحسم” التي قد تشكل فرصة لإعادة التوازن المفقود للمنطقة، بوقف التمدد الإيراني وإجبار طهران على انتهاج طريقة أخرى غير القوة العسكرية وسياسات الأمر الواقع للتفاهم والتعامل مع ملفات المنطقة ودول الإقليم، وفي مقدمتها تركيا.
لكل ذلك، فقد كان لافتاً أن تركيا لم تفضل الصمت إزاء العملية العسكرية، وما كان لها ذلك، لكنها أيضاً لم تكتف “بتفهم” دوافع العملية العسكرية، أو الدعوة لحوار أو حل سياسي ما، بل أعلنت صراحة “دعمها” للعملية العسكرية، محملة إيران و”الجماعات الإرهابية” مسؤولية الفوضى ومخاطر الحرب الأهلية في اليمن، ومطالبة إياهم بالانسحاب والكف عن تهديد الأمن والسلام في المنطقة.
فإذا ما أضفنا لهذه اللهجة المستجدة إزاء الجار القوي إيران حديث اردوغان عن إمكانية “تقديم الدعم اللوجستي” للتحالف العشري في اليمن، وتصريحاته المطالبة إيران بسحب قواتها من العراق وسوريا أيضاً، سنجد أننا أمام إرهاصات استراتيجية تركية جديدة إزاء إيران، تتجاوز الاشتباك اللفظي، لتعطي إشارات حول إمكانية تطوير الموقف التركي مستقبلاً.
لقد كتبتُ مؤخراً أن السياسات الإيرانية التوسعية وتطورات الموقف في أكثر من بلد قد تدفع تركيا دفعاً للمواجهة مع إيران دفاعاً عن مصالحها وحماية لعمقها الاستراتيجي، بعد أن تجنبت ذلك لسنوات طويلة بقرار استراتيجي وسياسي واضح. ولئن كانت أولى درجات المواجهة هي رفع حدة الخطاب وتغيير مفرداته، فإن المرحلة الثانية قد تشمل تفعيل عناصر المواجهة غير المباشرة سياسياً ودبلوماسياً واقتصادياً وعبر الحلفاء المحليين، لكن فشل كل هذه المحطات قد يدفع أنقرة دفعاً إلى المواجهة المباشرة، وهو ما لا تريده تركيا (وإيران أعتقد) ولا تريد أن تدفعها تطورات الأحداث له دفعاً ولو بعد حين.