تأثيرات النموذج التركي على تحولات الحركات الإسلامية العربية

ملخص تنفيذي

رغم اختلاف التجربة التركية الحديثة في عهد العدالة والتنمية عن مسار الثورات التي شاركت بها الحركات الإسلامية في العالم العربي، إلا أنه كان ذا تأثير واضح في قرارات هذه الحركات وخياراتها، ليس فقط على المستوى السياسي باعتباره حزباً حاكماً في دولة إقليمية ذات موقف من الثورات ودور في قضايا المنطقة، بل أيضاً على مستوى أطروحات هذه الحركات ومنطلقاتها الفكرية.

تبحث هذه الورقة في تأثير التجربة التركية في عهد العدالة والتنمية على الحركات الإسلامية في دول الثورات العربية، على المستوى المفاهيمي – الفكري وعلى المستوى التنظيمي – الإجرائي، وتقيّم مدى نجاحها في الاستفادة من التجربة التركية، وتسعى لاستشراف مدى تأثير ذلك في مستقبل هذه الحركات تنظيمياً وفكرياً وفق خياراتها المتاحة.

 

مقدمة

أسست حزبَ العدالة والتنمية في تركيا في آب/أغسطس 2001 مجموعة كبيرة من الكوادر الشابة في حزب الفضيلة، آخر أحزاب التيار الإسلامي المسمى “ميللي غوروش” أو الرأي الوطني بقيادة نجم الدين أربكان. ولذلك فقد قابلت الحركات الإسلامية في العالم العربي، سيما الإخوان المسلمون، الحزب الجديد بكثير من الشك والتوجس باعتباره انشقاقاَ عن “الحركة الإسلامية” بسبب العلاقة الخاصة التي جمعت أربكان وتياره بها على مدة عشرات السنين[i]، سيما وأن الحزب الوليد أصر في خطابه وأدبياته على أنه “خلع قميص” أو عباءة أربكان، بل وصل الأمر أحياناً حد الاتهام بالعمالة للغرب ولدولة الاحتلال[ii].

لم تدم فترة الجفاء بين الطرفين طويلاً بفعل التطورات في كل من تركيا والعالم العربي. فنجاحات العدالة والتنمية التي أهلته لتشكيل عدة حكومات متتالية من جهة، وسياساته التي بدأت تحوز الإعجاب سيما فيما يتعلق بقضايا المنطقة وفي مقدمتها القضية الفلسطينية من جهة أخرى[iii]، ثم الثورات العربية التي كان دعمها الحزب في مواجهة الأنظمة من جهة ثالثة، كلها عوامل بنت جسور الثقة بين الحركات الإسلامية في العالم العربي وبين حزب العدالة والتنمية التركي.

لقد لعبت تركيا دوراً مهماً في المنطقة منذ 2011، رغم أن موقفها لم يكن واحداً في كل دول الثورات، كما أضحت ملاذاً لقيادات المعارضات العربية سيما الإسلامية منها بعد الثورات المضادة، فكانت قادرة على التأثير – سياسياً – في خيارات هذه الحركات والتيارات وقراراتها وسياساتها. بيد أن التأثير الأكبر للحزب كان في “النموذج” الذي مثله بالنسبة لهذه الحركات كحزب “إسلامي” أو محافظ نجح في حكم بلد كبير مثل تركيا وكان قادراً على الجمع بين الخلفية الإسلامية أو المحافظة والديمقراطية، خصوصاً في ظل إنجازاته الاقتصادية والديمقراطية[iv].

ولئن امتد تأثير القوة الناعمة للحزب إلى مختلف تيارات الطيف الإسلامي في العالم العربي، إلا أن هذه الورقة ستركز على تأثيره على الحركات الإسلامية السنية، وحركات ما يسمى بـ”الإسلام السياسي” تحديداً باعتبارهم الأكثر تأثراً بالحزب والأقوى حضوراً في مشهد الثورات[v].

 

تطور الأطروحات الفكرية

غلب على حركات الإسلام السياسي على مدى عشرات السنين سؤال الهوية الذي انعكس في القضايا ذات الأولوية لديها مثل إسلامية الدولة وحاكمية الإسلام وتطبيق الشريعة وعلى أسماء الاحزاب الإسلامية مثل جبهة العمل الإسلامي في الأردن وجبهة الإنقاذ الإسلامية في الجزائر[vi]. وقد طورت هذه الحركات بعد تسعينات القرن الماضي تحديداً خطابها وممارستها السياسية بالتوازي مع تطور أفكارها وممارستها السياسية وفي ظل عدد من المتغيرات الإقليمية والدولية  مثل نهاية الحرب الباردة (1991) وحرب الخليج الثانية (1991) وأحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر (2001) وغزو العراق (2003) والعدوان على قطاع غزة (2008 – 2009)، فضلاً عن وصول حزب العدالة والتنمية للحكم في تركيا ثمن الثورات العربية.

ثمة أسباب كثيرة ساهمت في تأثير العدالة والتنمية التركي على منظومة أفكار الحركات الإسلامية في العالم العربي، أهمها نظرتها له على أنه “حزب إسلامي” رغم تأكيد أدبياته وتصريحات قياداته على أنه حزب ديمقراطي محافظ[vii]، فضلاً عن القبول الإقليمي والدولي الذي حظي به في سنوات حكمه الأولى تحديداً. وهذا هو “النموذج” الذي مثله العدالة والتنمية بالنسبة للإسلاميين العرب، أي جمعه بين الإسلام كمرجعية والديمقراطية كآلية، وهو للمفارقة “النموذج التركي” الذي بشر به الرئيس الأمريكي أوباما في أول خطاب له للعالم الإسلامي من أنقرة عام 2009[viii].

لقد كان هذا النموذج ركناً من أركان القوة الناعمة التركية التي ساهمت في إعادة تشكيل المنظومة الفكرية – المفاهيمية للحركات الإسلامية العربية، خصوصاً في بلاد الثورات العربية وفي مقدمتها تونس ومصر والمغرب التي كانت تخضع لمراجعات فكرية مستمرة، أولاً على مستوى تعريف الذات والهوية، وثانياً على مستوى بعض الأطروحات الإشكالية في تاريخها مثل الديمقراطية والعلمانية والمواطنة والدولة الحديثة والعلاقة بين الدين والدولة أو بين الدين والسياسة.

بعد سنوات من القبول بالديمقراطية الإجرائية مع التحفظ على خلفيتها الفلسفية، قدمت الحركات الإسلامية العربية – سيما القريبة من خط الإخوان المسلمين – مقاربة تعتنق الديمقراطية الأداتية كآلية إجرائية مع تثمينها كتجربة إنسانية متطورة وفريدة “لا خلاف أو تعارض بينها وبين الشورى”[ix]. بعد الربيع العربي وتجربة الحكم، رأى الإسلاميون العرب أن الديمقراطية تقدم للشورى الأدوات لتنقلها “من مستوى المبدأ والقيمة الخلقية والموعظة الدينية والمقصد الشرعي إلى جهاز حكم”[x].

كما أكدت هذه الحركات تبنيها لمفهوم المواطنة بالتساوي بين جميع المواطنين في الحقوق والواجبات باستثناء وحيد يتعلق بتولي غير المسلم أو المرأة منصب الرئاسة مع التعهد بقبوله إذا ما أقره دستور البلاد[xi]. وقد استشهد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية بصحيفة المدينة للتدليل على الاعتراف بحقوق المواطنة للجميع، مؤمنين وكافرين، رجالاً ونساء”[xii].

مع الثورات العربية وانفتاح أفق العمل السياسي وتأثراً بالتجربة التركية مع العدالة والتنمية، سادت قناعة لدى حركات الإسلام السياسي في بلاد الثورات بأهمية العمل السياسي تحت سقف الدولة والابتعاد عن خطاب الأمة العابر للحدود ونبذ العمل السري والتزام العلنية، وقد أسست معظم هذه الحركات أحزاباً سياسياً كتمظهر واضح لهذه القناعات[xiii].

كان ابتعاد حزب العدالة والتنمية التركي عن الخطاب الديني وانتهاجه خطاباً سياسياً يلمس الخصوصية الحضارية أو الثقافية من العوامل التي خففت عنه الضغوط الداخلية والخارجية، وكذلك فعلت التيارات الإسلامية العربية حين قاربت مفردات العولمة والحداثة والديمقراطية بالحديث عن الخصوصية الشرقية و/أو العربية بعيداً عن استخدام النصوص الدينية[xiv].

حزب النهضة التونسي ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ أعاد توصيف نفسه ليتناغم مع الأوضاع الجديدة في تونس ما بعد الثورة بالانتقال من مربع “الإسلام السياسي” إلى مربع “الإسلاميين الديمقراطيين”، الذي يمكن اعتباره نسخة معدلة من وصف “الديمقراطي المحافظ” الذي يصف العدالة والتنمية نفسه به[xv].

أما حزب العدالة والتنمية المغربي فقد عمد في مؤتمره السابع عام 2012 إلى حسم جدلية الشريعة والقانون بتوسيع مفهوم الأولى لتشمل العقيدة والأحكام والأخلاق فتصبح مسؤولية المجتمع كله وليس الدولة/الحكومة فقط، ثم فصل المجالين بحيث تضع الشريعة المبادئ العامة وبعض الأحكام التفصيلية فيما يصوغ القانون النصوص من خلال هيئة مخولة[xvi].

كما حسم الحزب رؤيته للدولة وعلاقتها بالدين بمناداته بدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية يحكمها القانون ذي المرجعية الإسلامية شاملة الفهم، باعتبارها مجالاً لعمل المجتمع بأسره ولا يقتصر على سلطة الدولة أو سلطة القانون، مركزاً على قيم الشورى والديمقراطية والمعايير الدولية للحقوق والحريات[xvii].

 

 

سؤال الحكم: من الدعوة للدولة

تركت المراجعات الفكرية – النظرية سابقة الذكر أثرها على السلوك السياسي لهذه الحركات، خصوصاً بعد الثورات حين اصطدمت التصورات الطوباوية ببراغماتية السياسية وعقلانية الحكم، وبشكل أكثر ارتباطاً بتجربة حزب العدالة والتنمية التركي الذي يمثل لهذه الحركات حزباً سياسياً ناجحاً  إضافة إلى كونه “إسلامياً”.

الرئيس التركي رجب طيب اردوغان كان حاضراً في مخيال الإسلاميين العرب وتمظهر في برامجهم وحملاتهم الانتخابية كرمز وقائد للتجربة التنموية التركية، لدرجة إطلاق لقب “اردوغان مصر” على بعض مرشحي الرئاسة[xviii].

قدم حزب العدالة والتنمية التركي خطاباً غير مؤدلج قريباً من المواطن مركزاً على الأهداف الاقتصادية والتنموية وجامعاً للكل التركي، الأمر الذي صنف كأحد أهم أسباب نجاحه. وقد لاحظ الإسلاميون العرب تراجع خطاب حركاتهم وضعفه بالمقارنة مع نظيرهم التركي[xix]، وكان لتلك الرؤية أثرها في التحول من خطاب “الأمة” نحو الخطاب القطري[xx]، وتراجع خطاب الهوية في ظل التوجه نحو الفصل بين الدعوي والسياسي في هذه الحركات[xxi]، إضافة لترك الشعارات الدينية في المنافسات الانتخابية[xxii]، فضلاً عن تأسيس الأحزاب السياسية.

وقد تأثرت أسماء هذه الأحزاب السياسية باسم حزب “العدالة والتنمية” التركي وبمدلولاته المتجردة من  الهويات والأيديولوجيا، بمعنى تراجع السياسي أمام الاجتماعي. صحيح أن حزب العدالة والتنمية المغربي كان أسبق من سَمِيِّه التركي (أسس الأول عام 1998 والثاني عام 2001)، لكن نجاح الأخير أدى إلى انتشار هذه الظاهرة في عدد كبير من الدول[xxiii]، وهو ما استمر بعد الثورات مع أحزاب حركات الإسلام السياسي مثل الحرية والعدالة في مصر (2011) والعدالة والبناء في ليبيا (2012).

كما مثلت تجربة العدالة والتنمية التركي في إخراج المؤسسة العسكرية التركية من دائرة التأثير على الحياة السياسية بخطوات متدرجة نموذجاً رغب الإسلاميون العرب في تقليده، سيما في مصر عبر خطاب الحفاظ على المؤسسة العسكرية والضمانات التي قدمت لها وفي مقدمتها “الخروج الآمن”[xxiv].

في الممارسة السياسية، بدا وكأن حزب النهضة التونسي أكثر المتأثرين بنهج العدالة والتنمية، لجهة تقديم التنازلات التكتيكية في سبيل تحقيق الأهداف الاستراتيجية، عبر الخطاب الجامع الهادئ وترويكا الحكومة والتركيز على المشاكل الحقيقية والتنازل عن الحكم، وغيرها من القرارات المصيرية التي جعلته في مقام “أول تجربة ديمقراطية للإسلام السياسي في البلاد العربية” حين أسس لتجربة توافق علماني – إسلامي[xxv].

دراسة النموذج التركي ومحاولات الاستفادة منه و/أو تقليده لم تقتصر على قيادات الإسلاميين العرب، لكنها امتدت لقواعد هذه الحركات وخصوصاً من الشباب، وقد أدى ذلك إلى تزايد السخط على أداء القيادات خصوصاً بعد الثورة المضادة وارتفاع نبرة النقد والمطالبة بالمراجعات ومحاسبة المسؤولين.

 

اختزال التجربة

اعترى مقاربات بعض الحركات الإسلامية في العالم العربي للتجربة التركية بعض السطحية والاختزالية والانتقائية في تقييم التجربة ومساحات الاستفادة منها وهو ما أدى إلى الكثير من الأخطاء.

أولى المقاربات الخاطئة تتعلق بماهية العدالة والتنمية التركي الذي تصر الكثير من الحركات الإسلامية العربية على اعتباره “حركة إسلامية” بالمنظور العربي، وهو تصور ترك أثره بشكل واضح على هذه الحركات، فتسبب لها بالحرج مرات كثيرة بسبب مواقف لا تتناسب و”إسلامية” الحزب التركي الذي تغنى الإسلاميون العرب بإنجازاته بينما حسبت عليهم بعض سياساته وقراراته، لأنهم قبلوا منه أو برروا له الكثير مما لم ولن يقبلوه أو يمارسوه هم.

ذلك أن إسباغ صفة “الإسلامية” على العدالة والتنمية يعني أولاً أنه جزء من منظومة “الحركة الإسلامية” في العالم الإسلامي، ويعني ثانياً إمكانية تقليده. صحيح أن منظري الحركة الإسلامية العرب قد تنبهوا للفروقات الجلية بينهم وبين العدالة والتنمية فيما يتعلق مثلاً بمنظومة العلاقات والسياسة الخارجية “التي اضطرت لها تركيا” مع الغرب ودولة الاحتلال مما ليسوا مضطرين له[xxvi]، إلا أنهم لم يستطيعوا تجنب الوقوع في الحرج بسبب بعض الأخطاء المقصودة وغير المقصودة في هذا السياق[xxvii].

من جهة أخرى، فالعلمانية إحدى الأسس الست للجمهورية التركية وكان تحديها يعني انتهاك الدستور واستثارة انقلاب عسكري فضلاً عن أن لها تفسيراً تركياً خاصاً في المفهوم والتطبيق[xxviii]، في افتراق واضح عن بيئة الإسلاميين العرب التي لا تتقبل الفكرة حتى ولو أتت على لسان اردوغان نفسه[xxix].

الخطأ الثاني يكمن في عدم التنبه للفروقات الجذرية بين الواقع العربي والتجربة التركية، في الخلفيات والسياقات والتطورات، سيما فيما يتعلق بالاختلاف الرئيس بين مساري “الثورة” في العالم العربي و”الإصلاح المتدرج” في الحالة التركية. فمثلاً، استطاع العدالة والتنمية تحييد المؤسسة العسكرية التركية – الوصية على الحياة السياسية دون أن تحكم مباشرة – على مدى زمني طويل وبشكل متدرج متسلحاً بضرورة المواءمة مع معايير الاتحاد الأوروبي، بينما أخطأ الإخوان في مصر حين أرادوا تقليد نفس الخطوات في سياق ثورة قامت على الحكم العسكري لمصر منذ 1952.

لم يدرك بعض الإسلاميين العرب الفارق الجوهري بين مسيرة العمل السياسي في تركيا في ظل حالة شبه مستقرة لها تحدياتها الخاصة بها، وبين الفترة الانتقالية ما بعد الثورات والتي كانت تحتاج لإجماع وطني أو تأسيس “الجماعة الوطنية” أكثر من سياق المنافسة السياسية البحتة بين الأطراف الثورية[xxx]، ولعله كان يجدر بهم الاهتمام بفكرة حزب العدالة والتنمية والتي جعلته حزباً جماهيرياً متعدد الأطياف في بنيته الداخلية وليس حزباً أيديولوجياً يعبر فقط عن تيار بعينه.

وهو نقاش يفتح الباب على سؤال معيار النجاح من وجهة نظر الإسلاميين العرب، هل هي الفوز في منافسات انتخابية في ظل وضع ديمقراطي هش أم ترسيخ الحالة الديمقراطية التشاركية في مواجهة التهديد الحقيقي وهو النظام القديم بكل تجلياته، أي التركيز على العدو الواضح وليس الخصوم المفترضين، ولعل حزب النهضة في تونس كان أكثر وعياً بمتطلبات هذه المرحلة الانتقالية ومعايير اجتيازها مرحلة الخطر.

 

خاتمة – التأثيرات المستقبلية

تقف الحركات الإسلامية في العالم العربي اليوم أمام مفترق طرق حقيقي في مسيرتها على المستويين الفكري والسياسي، ما بين تراجعها أمام الثورة المضادة ومشاكلها الداخلية والمطالبات المتزايدة من شبابها باتجاه المراجعات والمحاسبات، فضلاً عن المتغيرات المحلية والإقليمية، بعد أن أكدت سنوات الثورة والثورة المضادة الافتراق الكبير بين خطابها الدعوي وممارستها السياسية وافتقارها لرؤية عميقة للدولة الحديثة وكيفية إدارتها وعزوف جزء مهم من شبابها عنها[xxxi].

ورغم تميز كل حركة إسلامية في بلد معين عن باقي الحركات والبلاد لأسباب متعددة، إلا أن ثمة مشتركات عامة بين هذه الحركات التي تبدو أمام خيارات صعبة، من بينها وضع مجمل تراثه وأطروحاتها تحت مبضع التحليل النقدي بكل ما يحمله ذلك من مخاض صعب وعوائق كثيرة واستحقاقات تنظيمية، والتغيير الجذري في رؤيتها ومناهجها نحو العنف وحمل السلاح وما يترتب على ذلك من تبعات ثقيلة، والمراوحة في المكان باستمرار حالة الفشل وما يستتبعها من التشظي والانشقاقات والتحلل وفق نظرية أوليفييه روا بنهاية الإسلام السياسي.

إن دراسة خيارات الحركات الإسلامية العربية ومحاولة استشراف مستقبلها من خلال تحليل الواقع والعوامل المؤثرة والمسارات المحتملة أبعد من غرض هذه الورقة ومساحتها، بيد أننا نستطيع رصد بعض التأثير للتجربة التركية على هذه الحركات في مختلف المسارات الممكنة التي قد تنتهجها.

كبداية، لا يبدو سيناريو العنف وحمل السلاح في الداخل خياراً محبذاً لدى الإسلاميين في مصر وتونس والمغرب (فيما تحكم سوريا واليمن وليبيا معادلات مختلفة)، ولا شك أن النموذج التركي بالصبر على التضييقات والامتناع عن العنف الداخلي وصولاً للحكم و”التمكين” حاضر في مخيال الإسلاميين العرب ودافع لهم على العمل السلمي، سيما إذا ما اقترن ذلك باستقرار سياسي كما في المغرب وتونس أو بتسويات محتملة وقناعات قائمة كما في مصر.

من جهة أخرى، كان الانشقاق أو الخروج عن القيادة الفاشلة سياسياً وتأسيس مشروع جديد هو العنوان الأبرز لتجربة العدالة والتنمية التركي، وهو مفهوم يجد رواجاً بين شباب هذه الحركات وإن لم يتبلور بعد بشكل نهائي في مشروع سياسي أو دعوي ناجز، إلا أن فكرة القيادة التاريخية التي استوفت مرحلتها تبدو متغلغلة في الشباب. وقد يكون الدور المحوري الذي لعبه الرئيس التركي في إفشال المحاولة الانقلابية في 15 تموز/يوليو 2016 عاملاً مضافاً على قائمة إنجازاته بالنسبة للشباب، وإن كانت القيادات تؤكد على خصوصية كل تجربة وعدم إمكانية الاقتباس أو التكرار[xxxii].

أما في حال أرادت الحركات الإسلامية القيام بمراجعات جدية على مستوى مقولاتها الكبرى وأطروحاتها الفكرية والحركية، فسيكون للتجربة التركية أثر عميق على هذه المراجعات التي يقود مسيرتها حزبُ النهضة في تونس بسبب تمايزه الفكري تاريخياً عن عامة الإسلاميين العرب وربما بأثر الاستقرار النسبي في تونس. في هذا الإطار ستترسخ أكثر أفكار تتعلق بالنظرة للدولة ومهامها عبر حصرها في الحفاظ على الحقوق والحريات وليس فرض هوية أو ثقافة معينة. كما ستتعمق أكثر لدى هذه الحركات فكرة فصل العمل الدعوي عن السياسي، وإعادة تعريف “الإسلامية”، فضلاً عن تغير الأولويات بخصوص أسلمة المجتمع أو خوض معركة لمنع علمنته[xxxiii].

مما يمكن توقعه أيضاً مزيد التزام من هذه الحركات بالديمقراطية، ليس فقط كأداة للإدارة والحكم، ولكن أيضاً كنظام متوافق مع الفكرة الإسلامية، بحيث يمكن أن تساهم الحركات الإسلامية في تعزيز التحولات الديمقراطية في المنطقة[xxxiv].

في الخلاصة، ثمة فواعل وعوامل عديدة قد تساهم في تشكيل مستقبل الحركات الإسلامية في العالم العربي، ويمكن القول إن التأثر بتجربة حزب العدالة والتنمية التركي هو أحد هذه العوامل، سيما إذا ما أضفنا إلى القوة الناعمة المتضمنة في التجربة التأثير السياسي المباشر بفعل العلاقات البينية وتواجد بعض القيادات الإسلامية العربية في تركيا فضلاً عن الأدوار التي تلعبها تركيا في قضايا المنطقة.

وبالنظر إلى مدى تأثير التجربة التركية على هذا المستقبل، يمكن القول إن النهضة في تونس والعدالة والتنمية في المغرب سيكونان في طليعة المتأثرين نحو مزيد من التطور الفكري الذي بدآه، بفعل استمرار تجربتهما السياسية في ظل استقرار نسبي، بينما ستكون التجربة دافعة لإخوان مصر نحو المراجعات ومثبطة لهم عن مسار العنف، أما الحركات الإسلامية في كل من سوريا واليمن وليبيا فيمكن دراسة مساراتها المستقبلية بعد استقرار الأوضاع في تلك البلاد أو حل أزماتها بحيث يمكن لهذه الحركات أن تبلور رؤيتها الفكرية ومسارها في العمل السياسي.

في هذا الإطار، ينبغي التأكيد على أهمية النظر لمسيرة حزب العدالة والتنمية التركي على أنه تجربة مستمرة وليس نموذجاً ناجزاً، بما يغلب مفهوم الاستفادة على معنى الاقتباس والتقليد. وفي التجربة التركية الكثير مما ينبغي دراسته في سياق جدلية الديني والسياسي والانتقال من الدعوة إلى الدولة أو من خطاب الجماعة إلى مخاطبة المجتمع، وهي تحديات ستفرض نفسها على حركات الإسلام السياسي العربي حين تتغير الظروف السياسية، وهي أيضاً أسئلة لا غنى عنها في رسم ملامح “المشروع الإسلامي” في العالم العربي ومستقبله ومآلاته.

[i]  لا تنتمي حركة ميللي غوروش التركية إلى الإخوان تنظيمياً، لكن سادت بينهم علاقة تعاون وتنسيق على مدى عشرات السنين، باعتبارها الأقرب إليهم فكرياً على الساحة التركية.

[ii]  تمام، حسام، مع الحركات الإسلامية في العالم، (مكتبة مدبولي، القاهرة، 2009)، الطبعة الأولى، ص 164.

[iii]  أنظر مثلاً: تركيا والقضية الفلسطينية، تقرير معلومات (17)، (مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات، بيروت، 2010)، ص 31 – 50.

[iv] El sherif, Ashraf, İslamism After The Arap Spring, Current History, Vol: 110, İssue: 140, p 358, December 2015, (Entrance Date: 3 September 2016): http://faculty.bemidjistate.edu/mlawrence/ElSherif.pdf

[v]  ستستخدم هذه الورقة مصطلح “الإسلام السياسي” دون الدخول في جدلية المصطلح ودلالاته وبغض النظر عن رأي الباحث فيه.

[vi]  تمام، حسام، مصدر سابق، ص 215.

[vii]  الغنوشي، راشد، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام، (دار المجتهد، تونس، 2015)، الطبعة الثانية، ص 263 – 265.

[viii] Remarks By President Obama to Turkish Parliament, The White House, 6 April 2009, (Entrance Date: 3 September 2016): http://goo.gl/jcKC3U

[ix]  تمام، حسام، تحولات الإخوان المسلمين – تفكك الأيديولوجيا ونهاية التنظيم، (مكتبة مدبولي، القاهرة، 2010)، الطبعة الثانية، ص 43 -52.

[x]  الغنوشي، مصدر سابق، ص 61.

[xi]  أنظر: برنامج حزب الإخوان المسلمين، ويكيبيديا الإخوان، 25 آب/أغسطس 2007، (تاريخ الدخول: 3 أيلول/سبتمبر 2016):  http://goo.gl/NTPseg

[xii]  الغنوشي، مصدر سابق، ص 57.

[xiii]  تمام، حسام، تحولات الإخوان المسلمين، ص 46.

[xiv]  المصدر السابق 44 – 45.

 

[xv] Ghannouchi, Rached, From Political İslam to Muslim Democracy, Foreign Affairs, September/October 2016 İssue, (Entrance Date: 3 September 2016): http://goo.gl/hftWR4

[xvi]  أطروحة المؤتمر السابع، حزب العدالة والتنمية، 31 تموز/يوليو 2012، ص 28 – 29.

[xvii]  المصدر السابق، ص 27.

[xviii]  أنظر مثلاً: عطاء الله مهاجراني، من هو اردوغان مصر، الشرق الأوسط، 4 تموز/يوليو 2011، (تاريخ الدخول: 3 أيلول/سبتمبر 2016):  http://goo.gl/1JjbVd

[xix]  الغنوشي، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام، ص 209.

[xx]  تمام، مع الحركات الإسلامية في العالم، ص 210 – 211.

[xxi]  المصدر السابق، ص 171 – 179.

[xxii]  عبد الفتاح مورو للعربي الجديد: شعار الإسلام هو الحل شعار فارغ، العربي الجديد، 1 تشرين الأول/أكتوبر 2014، (تاريخ الدخول: 3 أيلول/سبتمبر 2016): http://goo.gl/v9YBsL

[xxiii]  تمام، مع الحركات الإسلامية في العالم، ص 216 – 217.

[xxiv]  أنظر مثلاً: عسكر مصر – معضلة الخروج الآمن، الجزيرة نت، 25 كانون الثاني/يناير 2012، (تاريخ الدخول: 3 أيلول/سبتمبر 2016): http://goo.gl/fH8FyX

[xxv]  الجمعاوي، أنور، الإسلاميون في تونس وتحديات البناء السياسي والاقتصادي للدولة الجديدة: قراءة في تجربة حركة النهضة، في: مجموعة مؤلفين، الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: اتجاهات وتجارب، (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2013)، ص 518.

[xxvi]  الغنوشي، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام، ص 265 – 266.

[xxvii]  أنظر مثلاً: مرسي للرئيس الإسرائيلي: عزيزي وصديقي العظيم، العربية نت، 18 تشرين الأول/أكتوبر 2012، (تاريخ الدخول: 3 أيلول/سبتمبر 2016): http://www.alarabiya.net/articles/2012/10/18/244522.html

[xxviii]  محفوظ، عقيل سعيد، جدليات المجتمع والدولة في تركيا: المؤسسة العسكرية والسياسة العامة، (مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2008)، ص 171 وما بعدها.

[xxix]  اردوغان ينصح المصريين بالاقتداء بالنموذج العلماني التركي، DW العربية، 13 أيلول/سبتمبر 2011، (تاريخ الدخول: 3 أيلول/سبتمبر 2016): http://goo.gl/0yuhYs

[xxx]  أنظر مثلاً: البشري، طارق، الجماعة الوطنية في ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية، في: التجدد الحضاري – دراسات في تداخل المفاهيم المعاصرة مع المرجعيات الموروثة، (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2015)، ص 111 – 155.

[xxxi]  عزت، هبة رؤوف، الخيال السياسي للإسلاميين ما قبل الدولة وما بعدها، (الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2015)، الطبعة الثانية، ص 118 – 119.

[xxxii]  الغنوشي، الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام، ص 264 – 266.

[xxxiii] Ghannouchi, ibid.

[xxxiv]  المصدر السابق.

 

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

الكيان الموازي في تركيا .. انحراف الفكر والممارسة

المقالة التالية

الجيش السوري الحر على مفترق مشاريع

المنشورات ذات الصلة