عندما اشتدت المحنة على الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، واشتد أذى خصومه عليه، قال له أحد السجناء ما معناه أن خصومه لهم الغلبة والمنعة والمظاهر العامة والناس تؤيدهم، فقال قولته الشهيرة: “لا تغتر يا بني بهذه المشاهد، فبيننا وبينهم الجنائز”. وبالفعل، مات خصمه اللدود أبو دؤادة وحمل نعشه أربعة رجال فقط ولم يسر في جنازته أحد، بينما خرج كل أهل بغداد وما حولها في جنازة الإمام أحمد رحمه الله.
هكذا كانت الجنازات في غابر الزمان معياراً لحب الأمة لرؤسائها وقياداتها وشاهداً على ذلك، ولئن غير طغاة اليوم حتى هذه المعاني عبر ما اصطنعوه من بطانة سوء وجماهير مصفقة، إلا أنها تبقى معياراً لدى الكثير من الشعوب.
اليوم –كما هو معروف- شيعت جنازة السيدة تنزيلة اردوغان والدة رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان. سأقفز عن الكثير من الملاحظات التي تظهر رقي الحرس والسياسيين الأتراك في التعامل حتى في هذه الظروف، واحترام الجماهير، واحترام حرمة المسجد (المحرومين منها في الكثير من بلادنا)، لأركز على نقطتين:
الأولى: السعي الدؤوب للحشود الغفيرة في الجنازة لرؤية اردوغان، والالتصاق بالحواجز المعدنية الأمنية لتسميعه عبارات التعزية المختلفة خلال دخوله المسجد وعند خروجه منه، ورفع الصوت بعبارة “عظم الله أجركم” وأخواتها لدى مروره ورؤيته، حيث رد عليهم السلام بالتلويح بيده شاكراً إياهم على مشاعرهم النبيلة.
الثانية: صلي الظهر وصليت الجنازة ورفعت الأدعية للمرحومة، وسار كل شيء على ما يرام، وبهدوء و”رتابة” معتادة، حتى قال الإمام (على عادة الأخوة الأتراك لدى الصلاة على موتاهم): “هل تسامحون الفقيدة بحقوقكم عليها؟؟” فرد الجميع بصوت عال: “نعم، سامحناها”. هنا، في هذه اللحظة تحديداً، أطرق رئيس الوزراء رأسه كثيراً، حتى لم تعد الكاميرا (والشاشة العملاقة) تظهر عيناه، وبدأت الدموع تتساقط من عيني اردوغان بغزارة. حينها فقط بدأت أصوات النحيب والبكاء لدى معظم الحاضرين. نظرت حولي فوجدت الكثيرين يمسحون دموعهم، ورأيت العيون وقد اغرورقت بالدموع. لقد بكى الحاضرون لدموع رئيس وزرائهم ومحبوبهم اردوغان. إنه شعب يستحق الاحترام، وقائد يستحق التقدير.
رحم الله السيدة تنزيلة رحمة واسعة، فقد أنجبت اردوغان، وأحسنت تربيته.