بوصلة الصراع في المنطقة

 

 

بوصلة الصراع في المنطقة

 

المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية

يفضل الكثيرون توصيف الأحداث الدائرة في المنطقة على أنها صراع سني – شيعي، تقود فيه إيران المحور الشيعي والمملكة العربية السعودية المحور السني، في صراع يمتد على رقعة جغرافية واسعة تضم العراق وسوريا ولبنان واليمن ودول الخليج. وهي مقاربة قد تبدو منطقية وواقعية ولها ما يبررها، بالنظر إلى النفوذ الإيراني المتمدد في المنطقة في السنوات القليلة الأخيرة تحديداً، وفي ظل البروباغاندا السعودية التي تصب في هذا الاتجاه.

بيد أن العودة لتطورات الأحداث في المنطقة ومجرياتها وتقييم واقعها الحالي لا تدعم هذه المقاربة، وإنما تقدم تفسيراً مختلفاً للصراع الدائر في المنطقة، على الأقل في السنوات الست الأخيرة.

في نهايات 2010، كان ثمة عالم عربي يعاني من أزمات متفاقمة ومستفحلة: أنظمة شمولية استبدادية ومظالم وفساد وفقر وأزمات اقتصادية واجتماعية وارتهان للخارج، وصل مثلاً إلى درجة إعلان ليفني الحرب على قطاع غزة عام 2008 من القاهرة، عاصمة العمل العربي الرسمي المشترك. انطلقت الثورات العربية حالمة ومطالـِبة بالكرامة والعدالة وحكم الشعب، وخلال فترة بسيطة نسبياً بعثرت المحورين القائمين في العالم العربي حينها، “الممانعة” و”الاعتدال”.

لم تأت هذه الثورات على هوى معظم الأنظمة العربية والإقليمية فقررت مواجهتها وإفشالها لئلا تمتد ارتداداتها إليها أو تمس مصالحها، فقادت الرياض الثورة المضادة في كل من مصر واليمن وتونس وبدرجة أقل ليبيا، بينما قادت طهران الثورة المضادة في سوريا تحديداً. وبنظرة لمجريات الأحداث يبدو الطرفان قد نجحا إلى حد بعيد، فقد أوقفت الاستدامة المتعمدة للثورة السورية تأثير “الدومينو” وموجة الثورات، بينما قصم الانقلاب في مصر ظهر الثورات والعالم العربي برمته، وما زال لهذين الحدثين الأثر الأبرز والأعمق في مختلف الأحداث والتطورات التي حصلت وتحصل حتى اليوم وفي مختلف البلاد، بما في ذلك الانقلاب الفاشل في تركيا وحصار قطر والمصالحة الفلسطينية.

الطريف (والمؤلم) أن هذين المشروعين، اللذين يدعيان الصراع والمواجهة، تعاونا وسهلا لبعضهما البعض “الإنجاز” بشكل تبادلي يكاد يكون اتفاقاً ضمنياً. فقد أسلمت طهران مصر الثورة للانقلاب ودعمته ضمناً بعد الإشارات التي أعطاها مرسي حول سوريا، بينما ساهمت حرب الخليج عموماً والسعودية تحديداً على الحركات الإسلامية ودعمها للانقلاب في إحداث الفراغ الذي مكن لتمدد طهران في الإقليم بشكل كبير ومتسارع.

أكثر من ذلك، يستخدم الطرفان نفس البروباغندا والخطاب وإن بدا ظاهرياً أنهما على طرفي نقيض. تستخدم إيران التحشيد الطائفي لضمان ولاء “الشيعة العرب” تحديداً وتعزيز “سيكولوجيا الأقليات” لديهم لتعميق لرتباطهم بها وائتمارهم بأمرها، بينما تقدم السعودية نفسها كقائدة لمحور “السنة” لضمان تأييد وولاء الشعوب والتيارات الإسلامية وغيرها في العالم العربي.

من جهة أخرى، تحتاج فكرة “المواجهة” بين الطرفين لمزيد من التدقيق والفحص، إذ بعيداً عن مفهوم الحرب المباشرة غير الموجود في ذهن أي منهما وخططه، لا يبدو أن أياً من الطرفين – وتحديداً السعودي – جادٌّ في ذلك. فلا يبدو ان الرياض تعمل بشكل حقيقي في أكثر ساحتين تسيطر عليهما طهران، أي سوريا والعراق، لتقويض سيطرتها عليهما. كما لا تبدو حريصة على تجميع أوراق القوة التي يمكن أن تعتمد عليها في تلك المواجهة المفترضة، فالمشهد الداخلي غير مستقر، والمنظومة الخليجية مبعثرة ومنقسمة على نفسها، والصراعات البينية والداخلية سيدة الموقف، والحرب الشعواء على التيارات الإسلامية والحية في العالم العربي هي اللافتة المرفوعة في هذه الأيام.

إذن، في المحصلة، ليس ثمة رؤية ولا أدوات يمكن التعويل عليها في هذه المواجهة المفترضة، الأمر الذي يعني أن هذه المواجهة ليست قائمة وليست مرشحة للحدوث قريباً. يعني ذلك أيضاً أن التصعيد الإعلامي والخطابي والسياسي مقصود لذاته لخدمة أهداف أخرى، قد يكون من ضمنها تأمين انتقال السلطة بهدوء، وضمان التأييد والدعم، ودفع أطراف أخرى للقيام بهذه المهمة بالنيابة، ولا يبدو أن تلك الاطراف مستعدة لذلك.

إن تمني حدوث شيء لا يعني حصوله، ولم يؤد التحليل الرغبي يوماً إلى تغيير الحقائق على الأرض. اليوم ليس ثمة مشروع عربي قائم في المنطقة فضلاً عن أن يكون هناك مشروع “سني” (مع تحفظي على التسمية وخليفتها وسياقها). هناك مشروعان فقط حاضران في المنطقة بالمعنى الحرفي الدقيق للكلمة،  المشروعان الصهيوني والإيراني، ويبدو أن التطورات الأخيرة في المنطقة تسير في خدمة هذا التقسيم، محلياً وإقليمياً ودولياً، وإن لم يكن ذلك مقصوداً لذاته.

اليوم ثمة إطار ثلاثي يجمع روسيا وتركيا وإيران في سوريا ويبدو مرشحاً للتمدد نحو قضايا أخرى تهم عموم المنطقة، بينما تعوّل السعودية على الخطاب الأمريكي المتصاعد وعقوبات واشنطن المتتالية ضد إيران وحلفائها وتتسارع خطاها نحو “إسرائيل” في مسار لم تعد التصريحات الخجولة التي تصدر عنها نادراً وعلى استحياء قادرة على نفي وجوده. خريطة ثنائية – ليست بهذه الحدة – لا ترضي معظم الأطراف في المنطقة، وخصوصاً التيارات التي شاركت في الثورات و/أو دعمتها ودفعت ثمن ذلك، وبالتالي لا يجب عليها أن تسلم بهذه الثنائية.

يراد للوضع الحالي في المنطقة أن يكون المشهد الختامي للثورات العربية، بأن يسدل الستار على القضية السورية بعد أن استقرت الأمور إلى حد بعيد للسيسي في مصر، وتراجعت النهضة في تونس حفاظاً على وجودها، وضاعت كل من اليمن وليبيا في متاهات التدخلات الخارجية التي أتت لها بالدم والفقر والصراعات الداخلية المستدامة.

وعليه، فلا يجب الانخداع بالشعارات المرفوعة أو المواجهة المدّعاة حين تنفي ذلك كلُّ حقائق الواقع وسياقات الأمور، وحين تكون أدوار المتواجهين المفترضين مكملة لبعضها البعض وفق الصورة الأكبر والأشمل للأحداث. فضلاً عن أن من يقدم نفسه كرأس حربة في المواجهة يجرد نفسه من كل أوراق القوة المفترضة، ويقدم نماذج من الفشل المتكرر داخلياً وخليجياً وعربياً وفي مختلف الساحات، فكيف يصدقه البعض أنه سيواجه، أو أنه إن واجه سينتصر؟!.

باختصار، المواجهة في المنطقة سياسية وليست مذهبية وإن حاول البعض توصيفها كذلك لعدة أسباب، وبوصلة الصراع فيها هي الشعوب وحقوقها وكرامتها التي ثارت لأجلها، ولئن فشلت في موجتها الأولى فلا ينبغي أن تلقي بنفسها في أحضان الثورات المضادة التي تحاول خداعها بالشعارات الرنانة والمواجهة المدّعاة.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

زيارة اردوغان الخليجية: الرسائل والدلالات

المقالة التالية

"المصالحة الفلسطينية": حقائق تغيّبها التطورات

المنشورات ذات الصلة