في أول محطة سياسية مهمة بعد الانتخابات البرلمانية، انتخب مجلس الشعب التركي رئيسه على مدى أربع جولات متعاقبة، بعد أن فشل أي من المرشحين في الحصول على الأغلبية المطلوبة في الجولات الثلاث الأولى. أما في الجولة الرابعة والأخيرة فقد فاز مرشح العدالة والتنمية، وزير الدفاع الحالي عصمت يلماظ على مرشح الشعب الجمهوري – ورئيسه السابق – دنيز بايكال بـ 258 صوتاً مقابل 182.
وفي تحليل خلفية هذه النتيجة يبدو أن العدالة والتنمية قد استفاد من فشل المعارضة في التكتل خلف مرشح واحد، بيد أن الجولة الأخيرة أظهرت تصويت حوالي 50 نائباً من الشعوب الديمقراطي (ذي الجذور الكردية) لصالح مرشح الشعب الجمهوري حرصاً منه على إفشال العدالة والتنمية، بينما أبطل نواب الحركة القومية أصواتهم بالتصويت لمرشحهم الذي كان خارج المنافسة، لحرصهم على عدم اتخاذ نفس الموقف مع الشعوب الديمقراطي الذي يتهمونه بدعم “الإرهاب”، أي حزب العمال الكردستاني.
وبطبيعة الحال، فقد أغضبت هذه الخطوة الحزبَيْن المعارضين الآخرين، حيث اعتبراها مؤشراً على تحالف غير معلن بين العدالة والتنمية والحركة القومية لتشكيل الحكومة، فقال رئيس الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش: “الحركة القومية سلم العدالة والتنمية رئاسة البرلمان بيده على طبق من ذهب، نبارك لتركيا الحكومة الائتلافية بينهما”، بينما شن نائب رئيس حزب الشعب الجمهوري علي كوج هجوماً لاذعاً على الحزب القومي متهماً إياه بالحرص على المناصب والكراسي وأنه “عصا يتوكأ عليها العدالة والتنمية كلما واجهته أزمة”.
لكن نظرة أعمق على المشهد وطريقة تصرف الحركة القومية تظهر رسالة أخرى ونتائج مختلفة. فالحزب لم يحد عن موقفه الذي اتخذه منذ اليوم الأول لصدور نتائج الانتخابات، كما أنه ظل وفياً لوعده بعدم المشاركة مع حزب الشعوب الديمقراطي في أي ائتلاف حكومي أو مشروع أو موقف. والحال كذلك، فلا يبدو أن الحزب القومي هو من أفقد المعارضة فرصة حرمان العدالة والتنمية من المنصب، بل الشعب الجمهوري – أكبر أحزاب المعارضة – الذي لم يتلقف الرسالة وأصر على دعم مرشحه هو. ذلك أن زعيم القوميين دولت بهجلي كان قد أعلن قبل الجولة الثالثة أن حزبه سيبطل أصواته في الجولة الرابعة بالتصويت لمرشحه، في رسالة إلى الشعب الجمهوري مفادها أنه إن أردتم هزيمة العدالة والتنمية فادعموا مرشحنا ليصل للجولة الرابعة ويحصل على دعم الأحزاب الثلاثة (وهو بالمناسبة أكمل الدين إحسان أوغلو مرشح المعارضة التوافقي للانتخابات الرئاسية) لكن الشعب الجمهوري لم يتجاوب فذهب المنصب للحزب صاحب الأصوات الأعلى في البرلمان.
لكن هل كانت هذه الخطوة فعلاً إيذاناً بائتلاف حكومي وشيك وصفقة قد تمت حقاً بين العدالة والتنمية والحركة القومية؟؟
أعتقد أن تصرف الحزب القومي يشير إلى ثلاث نتائج مهمة:
الأولى، انهيار ادعاء تكتل المعارضة المشكل من %60 من نواب البرلمان، وتأكيد استحالة التقاء الحركة القومية مع الشعوب الديمقراطي في المدى القريب، وهكذا يصبح لدينا – قبل تشكيل الحكومة – ثلاثة أحزاب معارضة مختلفة البرامج، وليس كتلة معارضة واحدة.
الثانية، انتفاء إمكانية تشكيل حكومة من دون العدالة والتنمية عملياً، إذ يتطلب ذلك إما مشاركة القوميين مع الأكراد في الحكومة أو دعم الأكراد لحكومة أقلية من القوميين والكماليين، وهذا غير ممكن في ظل الموقف المتصلب من القوميين، وفي ظل تدهور العلاقات بين أحزاب المعارضة على خلفية هذا الموقف.
الثالثة، صعوبة تشكيل أي حكومة ائتلافية، ورفع أسهم واحتمالية الانتخابات المبكرة.
ذلك أنه في ظل تمنع حزب الشعوب الديمقراطي عن المشاركة مع العدالة والتنمية (وقد أكد ذلك في تصويته الأخير في البرلمان)، يبقى للحزب الحاكم خياران فقط للحكومة الائتلافية: الحركة القومية والشعب الجمهوري.
من الناحية النظرية يبدو الأول أقرب للعدالة والتنمية أيديولوجياً حيث أن جماهيره وأنصاره في العموم من المحافظين، كما إنه لا يخالف العدالة والتنمية كثيراً في السياسات الخارجية، إضافة إلى أن النقاشات الداخلية في الحزب الحاكم رجحت التحالف معه لهذه الأسباب وغيرها. وبالتالي سيكون الحزب الخيار الأول للعدالة والتنمية، سيما بعد الإشارة الأخيرة في البرلمان، وللانضباط الداخلي لدى القوميين والتزامهم بكلمة زعيمهم.
بيد أن الحزب القومي قد طرح خطوطاً حمراء وشروطاً من الصعب على العدالة والتنمية تلبيتها لتشكيل الحكومة، في مقدمتها تعليق عملية السلام مع الأكراد بشكل كامل، وإعادة فتح ملفات الفساد للوزراء الأربعة، وتحديد صلاحيات الرئيس اردوغان. الأكثر من ذلك أن تصويت الحركة القومية في البرلمان لم يكن للعدالة والتنمية بقدر ما كان ضد الشعوب الديمقراطي، بدليل عدم ذهاب أي صوت منه لعصمت يلماظ. وبذلك ربما تكون النتيجة الظاهرة قد أفادت الحزب الحاكم، بينما جوهر التصرف يقول إن الحركة القومية “متصلب” في مواقفه – كلها – ولا يترك هامشاً كبيراً للمناورة والمرونة السياسية، مما ينذر بفشل محاولات التعاون معه في تشكيل الحكومة.
أما الائتلاف مع الشعب الجمهوري فهو أقل ترجيحاً في دوائر العدالة والتنمية للاختلاف الأيديولوجي والسياسي بينهما، وللخصومة الشديدة والاستقطاب الحاد اللذان صبغا سنوات حكم الأخير، ولتاريخ طويل من التناقض في السياسات والرؤى بينهما، فضلاً عن المشاكل الداخلية التي يعاني منها الحزب الكمالي، إذ تتصارع فيه تيارات مختلفة ليست على قلب رجل واحد.
لكن من ناحية أخرى، يبدو “الائتلاف الكبير” كما يسمى بين العدالة والتنمية والشعب الجمهوري أكثر قوة لاعتماده على عدد أكبر من نواب البرلمان (390 من 550)، ولتمثيله طيفاً أوسع من الشعب، واتجاه رجال الأعمال ورؤوس الأموال لهذا الائتلاف باعتباره أكثر أمناً. إضافة إلى كل ذلك يبدو التحالف مع الحزب الكمالي العلماني آمناً لجهة الحفاظ على الأصوات بالنسبة للطرفين، إذ يمثل الحزبان فئتين مختلفتين من الشعب، وبالتالي فلا خطورة كبيرة من أي “انزياح بينيّ” للأصوات بينهما، فضلاً عن أصوات الأكراد التي كان العدالة والتنمية سيخسرها في حال ائتلافه مع الحركة القومية.
لكن جهود الائتلاف مع الشعب الجمهوري تلقت أيضاً ضربة كبيرة خلال التصويت في البرلمان، بعد أن سرت شائعات أن العدالة والتنمية سيدعم مرشح الكماليين دنيز بايكال تعبيراً عن حسن النية وعربوناً لصفقة قادمة بين الطرفين، سيما بعد اللقاء المفاجئ بين الأخير والرئيس اردوغان صبيحة إعلان النتائج، والتي اعبترت في حينها أول إرهاصات هذا الاتفاق غير المعلن.
بيد أن ما حصل أثبت غياب الصفقة، وتسبب بردة فعل عنيفة وغاضبة من قبل الشعب الجمهوري، الذي اعتبر أن النتيجة أظهرت بوضوح “طرفـَيْ الحكومة الائتلافية، اللذان يليقان ببعضهما البعض”. لاحقاً، قال أحد قيادات الحركة القومية إن موقف حزبه في البرلمان وجه ضربة قاصمة لإمكانية ائتلاف العدالة والتنمية مع الشعب الجمهوري، وأنها كانت ضربة مقصودة منه.
حسناً، ما الذ يعنيه كل ذلك إن جمعنا أجزاء الأحجية المتناثرة والتي تبدو غير متسقة؟
أعتقد أنها تعني أن حزب الحركة القومية ما زال في مكانه الثابت الذي أعلنه يوم صدور النتائج، أي عدم مشاركته في أي حكومة ائتلافية، ومراهنته على فشل السيناريوهات الأخرى. وهذا يظهر رغبته في إعادة الانتخابات لأنه يتوقع أن تضيف إلى رصيده أكثر، باعتبار أنه في منحى تصاعدي والعدالة والتنمية في منحى تنازلي.
إذاً، أدرك حزب الحركة القومية بقيادة زعيمه المخضرم دولت بهجلي منذ اللحظة الأولى أنه “بيضة القبان” وفق نتائج الانتخابات، فأراد استثمارها على الوجه الأكمل، من حيث طرح سقف مرتفع للتعاون مع العدالة والتنمية، ورفض التعاون مع أحزاب المعارضة، ومحاولة إفشال التعاون بين العدالة والتنمية والشعب الجمهوري ليصل إلى لحظة الانتخابات المبكرة التي يرى أنها في مصلحته.
والحال كذلك، يبدو أن سيناريو الائتلاف الحكومي بين العدالة والتنمية والحركة القومية صعب التشكيل سهل التنفيذ والإدارة (إن تم)، بينما الاتئلاف مع الشعب الجمهوري سهل التشكيل صعب التنفيذ والإدارة (إن تم)، ويبقى الاحتمال الأكبر هو سيناريو الانتخابات المبكرة في الخريف القادم، وهذا ما تعمل جميع الأحزاب على أساسه منذ اللحظة الأولى.