انعكاسات الانسحاب الأمريكي من سوريا على تركيا
عربي 21
كان إعلان إدارة ترمب قرار سحب قوات بلاده من سوريا إثر حديث هاتفي مع نظيره التركي وبعد أيام من موافقة الخارجية الأمركية على صفقة صواريخ باتريوت لأنقرة مدعاة للحديث عن صفقة تركية – أمريكية. ورغم أن هذا الرأي له بعض الوجاهة باعتبار القرائن سالفة الذكر وغيرها، إلا أنه لا يبدو دقيقاً بالمطلق.
فالقرار أمريكي بامتياز ومتناغم مع استراتيجية الانسحاب أو تخفيف الوجود في الشرق الأوسط للتركيز على مواجهة الصين وهي معلنة منذ عهد أوباما، كما أنه يتوافق مع وعود ترمب الانتخابية وحديثه قبل أشهر عن ضرورة الانسحاب، ومما يدعم ذلك قرار ترمب الانسحاب من أفغانستان كذلك، وهو أمر لا علاقة له بتركيا والتوافق معها.
كما أن مجيء القرار بعد أسابيع من قرار واشنطن بناء نقاط عسكرية على الحدود السورية – التركية)وهي فكرة رفضتها تركيا واعتبرتها موجهة ضدها( وبعد أيام من تحذيرها أنقرة والمعارضة السورية من عملية مفترضة شرق الفرات يحيل إلى ارتجالية ترمب وعدم خروج القرار بالتوافق مع “المؤسسة” الأمريكية، وهو ما يفسر المواقف الغاضبة والمتحفظة – بما فيها الاستقالات والإقالات – تجاه القرار.
في المقابل، فصفقة بيع صواريخ باتريوت لم تتم بعد، وكل ماحصل هو موافقة الخارجية الأمريكية في انتظار موافقة الكونغرس وهو ما قد يتم وقد لا يتم، فضلاً عن أنها ليست بديلاً عن صفقة S400كما يؤكد الأتراك.
التعقيب التركي على قرار الإدارة الأمريكية تأخر نسبياً ثم أتى على شكل تأجيل موعد عملية شرق الفرات وفق تصريح اردوغان، ويمكن عزو ذلك لأمرين متكاملين. الأول حالة الغموض وعدم اليقين، فالانسحاب قد لايتم وقد يتم جزئياً وقد يؤجل ويتأخر كثيراً، فالضغوط على ترمب كبيرة والاعتراضات كثيرة والتطورات المفاجئة محتملة دائماً في المشهد السوري. فضلاً عن أن الانسحاب لا يعني بالضرورة التخلي أو الغياب التام، فثمة أدوات أخرى للتأثير وهناك قواعد أمريكية أخرى في المنطقة وخصوصاً في العراق.
أما المسوغ الثاني للتريث التركي فهو الرغبة في التنسيق مع الأمريكان بحيث يكون انسحابهم أكثر فائدة وأقل ضرراً، وقد بدأ هذا المسار باتصال ثان بين ترمب واردوغان قم بالإعلان عن اجتماع ثنائي مرتقب خلال أيام، إضافة لحرص تركيا للتنسيق مع الأطراف الأخرى وخصوصاً روسيا.
إذن، في المحصلة، إن لم يكن هناك صفقة متكاملة بين واشنطن وأنقرة فكيف يمكن تفسير ما حصل وتغريدات ترمب التي كالت المديح للرئيس التركي؟
الولايات المتحدة مهتمة بالتأكيد بما سيحصل بعد انسحاب قواتها، وبالتالي تبحث عمن يحفظ ما يمكن حفظه من مصالحها، وتركيا هي أقرب اللاعبين المتواجدين على الأراضي السورية لها – مقارنة مع روسيا وإيران – باعتبارها عضواً في الناتو وشريكاً استراتيجياً لها، ويضاف لذلك إثبات أنقرة لنفسها في الملف السوري مؤخراً وخصوصاً عبر العمليات العسكرية، ورغبة واشنطن في التنسيق معها لضبط ردة فعلها تجاه قوات سوريا الديمقراطية.
السؤال الأهم فيما يتعلق بقرار الانسحاب الأمريكي هو من سيملأ ذلك الفراغ، المفترض على أقل تقدير، وهو سؤال لا يملك أحد إجابة شافية وأكيدة عليه في الظروف الحالية رغم الاعتقاد الشائع بعكس ذلك، فهناك عدة احتمالات إزاء واشنطن منها التفاهمات الضمنية مع موسكو وإبرام صفقة مع تركيا واستقدام قوات عراقية وتثبيت قوات سوريا الديمقراطية، إضافة لحضورها في الساحة السورية “جوياً” انطلاقاً من قواعدها الأخرى وخصوصاً في العراق.
الخاسر الأكبر من الانسحاب الأمريكي هي الميليشيات “الكردية” التي رهنت وجودها وحاضرها ومستقبلها بالتحالف مع الولايات المتحدة، ولذلك تبدو في حالة من الهلع والصدمة من جهة والبحث عن بدائل من جهة أخرى. ترك القوات الأمريكية قوات سوريا الديمقراطية لوحدها هو مصلحة حقيقية لتركيا وفرصة ذهبية لها بالتأكيد، لكن ذلك لا يعني أنها مكاسب خالصة دون تحديات أو عقبات.
فعشرات الآلاف من المسلحين والمدربين أمريكياً من جهة، والعيون المتربصة بملء الفراغ الأمريكي من جهة أخرى، وهواجس التوريط والاستنزاف من جهة ثالثة، وعدم الاطمئنان لنوايا ترمب وثباته على موقفه، كلها حاضرة في ذهن صانع القرار التركي.
حين أعلنت أنقرة عن عملية عسكرية وشيكة لها شرق الفرات، صبَّت أغلب التوقعات مع عملية محدودة وليست موسعة على غرار درع الفرات وغصن الزيتون. واليوم، بعد الانحساب الأمريكي إن تم، لا نتوقع انتشار القوات التركية على امتداد مناطق شرق الفرات التي تقدر بحوالي ثلث الأراضي السورية. سيكون مطمئناً لتركيا أن تضبط بعض البلدات الحدودية مثل تل أبيض وعين العرب ضمن شريط حدودي آمن وغخراج قوات سوريا الديمقراطية منها وتوجيه ضربات محددة على أهداف عسكرية تابعة لها لتقويض سيطرتها ونفوذها.
أكثر من ذلك، تبدو أفكار أخرى أكثر حضوراً اليوم من السابق، مثل استقدام بعض قوات البشمركة العراقية الأقدر على التفاهم مع أنقرة، ورفد قوات سوريا الديمقراطية بعناصر غير محسوبة على حزب الاتحاد الديمقراطي، وإخراجها/خروجها من مدن وبلدات ذات أغلبية عربية مثل الرقة، وانتخاب مجالس تمثيلية في مناطق مختلفة.
أخيراً، ثمة تساؤل مهم بخصوص نظرة تركيا لرغبة النظام في بسط سيطرته على مناطق شرق الفرات. حيث لا شك أن ذلك يخدم فكرة وحدة الأراضي السورية ويقلل من مخاطر التقسيم والفدرلة وبالتالي يصب في صالح أهداف تركيا في مواجهة المشروع الانفصالي للميليشيات.
لكن ذلك لا يعني أن أنقرة سترحب بعودة النظام لكامل تلك الأراضي سريعاً، ودون ان يكون لها منها نصيب. ذلك أن أنقرة تدرك أن الحضور الميداني هو الورقة الأفضل على طاولة التفاوض بخصوص مستقبل سوريا، وتدرك أيضاً أن سيطرة النظام على شرق الفرات سيعني طرح تساؤلات ومطالبات حول وجودها في عفرين ومنطقة درع الفرات قريباً جداً وهو ما لا تريده بالتأكيد.
وعليه، فإن فكرة التنسيق والتقاسم مع روسيا، وبدرجة أقل إيران، تبدو أكثر حضوراً وقبولاً بالنسبة لأنقرة وأقرب للحفاظ على إطار أستانا، على أن يؤجل كل ما هو متعلق بالميدان إلى ما بعد الحل السياسي المفترض/المرتقب في سوريا.