بعد انقشاع نشوة “الصفعة التركية” في الساعات والأيام الأولى، وتدحرج تطورات الأزمة بين روسيا وتركيا على أكثر من صعيد، بات من الضروري النظر في النتائج غير الآنية للأزمة بين البلدين وتأثيراتها بعيدة المدى على أنقرة. فمآلات الأزمة بين الخصمين التاريخيين بحاجة إلى تحليل أعمق من مجرد العلاقة الثنائية مع موسكو، أي انعكاساتها على سياستها الخارجية والتجربة التركية بقيادة العدالة والتنمية برمتها.
المواجهة مع موسكو
لا شك أن الخطوة التركية الجريئة في ساعاتها الأولى قد أحرجت القيصر الروسي وشكلت تحدياً لقوة ردعه، وأثبتت إصرار أنقرة على حماية مجالها الجوي ومكانتها الاعتبارية، بيد أن التطورات اللاحقة سارت في اتجاه مختلف.
فقد تخطت موسكو ما كان متوقعاً منها، أي رفع سقف وحدّة الخطاب إرضاءً للداخل وحفظاً لماء وجه المؤسسة العسكرية إضافة إلى بعض العقوبات الاقتصادية غير المؤثرة (من خلال عدم المس بملف الطاقة)، وترك المواجهة الحقيقية فوق الأرض السورية على المدى البعيد. لقد نفذت روسيا خطوات مهمة ومتلاحقة من شأنها خدمة أهدافها الاستراتيجية والجيوسياسية وتقويض الدور التركي بشكل كبير، مثل:
– نشر منظومة S 400 للدفاعات الجوية، التي غطت كافة الأجواء السورية ومناطق من بعض الدول المجاورة في مقدمتها تركيا.
– البدء بإنشاء قاعدة عسكرية ثانية في سوريا.
– بدء مشاورات مع قبرص الجنوبية (اليونانية) لإنشاء قواعد عسكرية روسية على أراضيها.
– زيادة تواجدها العسكري في سوريا وشرق المتوسط كماً ونوعاً، باستقدام عدد من السفن الحربية والطائرات المقاتلة.
– تكثيف القصف الجوي على التركمان والمعارضة المحسوبة على أنقرة شمال سوريا.
– تحريك حلفائها الإقليميين لتركيز الضغط السياسي والاقتصادي على تركيا، نتج عنه أزمة دبلوماسية مع الحكومة المركزية في بغداد ثم تخفيض كمية الغاز الذي تضخه طهران لتركيا كإشارة لا تخفى دلائلها رغم كونها مؤقتة وقصيرة.
ليس مهماً في هذا الصدد ما إذا كانت روسيا قد افتعلت الأزمة عامدة كما أشارت بعض التحليلات تأثراً بسرعة ونوعية وتراكمية الردود الروسية، أم أنها فعـّلت “الخطة باء” المعدة مسبقاً لسيناريو المواجهة. فالأهم أن موسكو – الجار الوحيد الذي لم تهزمه تركيا طوال تاريخها – قد أوصلت رسالة بأن سوريا هي بوابة عودتها قوة عظمى في العالم ونافذة تواجدها المستدام في المنطقة، فضلاً عن إضرارها بتركيا استراتيجياً من عدة زوايا:
أولاً، فرض سيطرتها الكاملة على الأجواء السورية ومنع طائرات كل من تركيا والتحالف الدولي من التحليق فوقها منذ تاريخ إسقاط المقاتلة.
ثانياً، تحويل “المنطقة الآمنة” التي تطالب بها تركيا إلى فكرة شبه مستحيلة في ظروف اللحظة الراهنة، بعد أن كانت الأخيرة على وشك بدء عملية عسكرية في الشمال السوري مع الولايات المتحدة تمهيداً لها.
ثالثاً، استهداف التركمان والمعارضة السورية شمال البلاد بشكل غير مسبوق، في محاولة لإضعافهم و/أو إخراجهم من المنطقة والمعادلة، بما يساعد على إفقاد أنقرة أحد أهم أوراقها في الملف السوري.
رابعاً، تهديد تركيا بموجات جديدة وكبيرة من اللاجئين بسبب القصف الروسي المستمر والعنيف، وتحمل أعبائها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والأمنية.
خامساً، تدويل الأزمة السورية بما يعني أن الحل سيخرج من كواليس الصفقات الروسية – الأمريكية بينما يتراجع الدور التركي بشكل ملحوظ.
سادساً، تعميق عزلة تركيا في مداولات الأزمة السورية، بتغيير موقف فرنسا من مصير الأسد، وتفعيل محور طهران – بغداد – دمشق، وحشد بعض خصوم تركيا مثل الإمارات واليونان ومصر، ومحاولة إرضاء واستمالة “إسرائيل”.
العلاقة مع الناتو
لكن المواجهة الجيوسياسية والجيواستراتيجية مع موسكو ليست مظنة الخسارة المحتملة الوحيدة لتركيا، إذ هناك ما هو أهم وأخطر باعتباره يمس جوهر تجربتها الفتية بما يتعلق بالسياسة الخارجية تحديداً.
فقد بنى العدالة والتنمية رؤيته على إعادة اكتشاف تركيا لمكانها ومكانتها وإمكاناتها من خلال التوازن بين الشرق والغرب في العلاقات والتوجه، وحاول على مدى سنوات طويلة بناء عناصر قوة مستدامة يستطيع من خلالها اجتراح سياسة خارجية مستقلة جزئياً ونسبياً عن دوائر ارتباطه الغربية، أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي.
وعلى مدى سنوات طويلة، عززت تركيا حضورها في “عمقها الاستراتيجي” وفق نظرية داودأوغلو، أي الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز دون أن تقطع شعرة معاوية مع حلفائها الاستراتيجيين في الغرب،فكان لها مواقفها المتمايزة عنهم في بعض قضايا المنطقة مثل سوريا ومصر وفلسطين.
وفي مشهد شديد الشبه بالتهديد السوفياتي لتركيا بعد الحرب العالمية الثانية والذي دفع الأخيرة لطلب حماية ثم عضوية حلف الناتو، أعادت الأزمة الحالية تركيا حثيثاً إلى حضن الناتو وواشنطن، اعتماداً على مادة الدفاع المشترك في الحلف، وردعاً للدب الروسي بالقوة العسكرية الغربية. ولئن أدى الدعم السياسي واللفظي المقدم من دول الناتو لتركيا إلى تجنب المواجهة العسكرية المباشرة، إلا أنه قزّم الدور التركي من مستوى دولة إقليمية فاعلة وشبه مستقلة إلى مجرد عضو في منظومة الناتو الأشمل. هكذا، يبدو أن موسكو تساهم مرة أخرى بهذا التهديد، من حيث شاءت أم لم تقصد، في تحديد وجهة ومستقبل تركيا في الإقليم والعالم.
إن وجود 36 سفينة حربية من 12 دولة مختلفة – أغلبها من حلف الناتو – في شرق المتوسط يعني أن مستوى الصراع قد ارتفع من الإقليمي إلى الدولي، وأن القرارات المصيرية سيتخذها الحلف لا الدول، وأن الحلول السياسية ستصوغها صفقات “الكبار” التي ستفرض على الباقين فرضاً. بهذا المعنى تكون أنقرة قد تحولت – ولو مرحلياً – من فاعل إلى تابع ومن صانع السياسات إلى المتأثر بها.
وفي سياق شديد الارتباط بهذه الزاوية، تخلت أنقرة – أو بالأحرى أجبرت على التخلي – تماماً عن منظومة S 300 الصاروخية الصينية، التي كانت تطمح من خلالها لتنويع مصادر أسلحتها النوعية والاستراتيجية، بعد شهور من الشد والجذب مع الناتو الذي فاز بالصفقة في نهاية المطاف.
من ناحية أخرى قضت الأزمة الحالية وإلى مدى غير معلن وربما نهائي على محاولات تركيا الانضمام إلى منظمة شنغهاي التي أصبحت “شريكاً للحوار” فيها عام 2013 وطلبت عضويتها عام 2014 كبديل محتمل (أو تهديد معلن) عن باب الاتحاد الأوروبي الموصد في وجهها. فاليوم، بعد تأزم الموقف مع موسكو وبعد الصفقة الأخيرة مع الاتحاد الأوروبي، عادت الدماء لتتدفق في شريان المفاوضات التركية الأوروبية لكسب العضوية والتصقت تركيا أكثر بموقف الاتحاد.
بيد أن الأهم والأخطر في جزئية العلاقة مع الناتو هو أن تركيا في طريقها لخسارة استقلاليتها وموقفها المتمايز في حل الأزمة السورية لعدة أسباب، منها السيطرة الروسية الطاغية، وانتقال الأزمة إلى بُعد عالمي، واستلام دول أخرى ملف المعارضة السورية مؤخراً، وحاجة تركيا إلى حماية الناتو وعدم إغضابه بالخروج عن خطوطه المرسومة.
تفصيل كهذا قد يعني تورط أنقرة أكثر فأكثر في الحرب على “الإرهاب” وفق أجندة الناتو وليس وفق مصالح أمنها القومي، وقد يعني أن السقف التركي المرتفع في عدد من قضايا المنطقة – وفي مقدمتها السورية – سيتجه اضطراراً للانخفاض تساوقاً مع الموقف الغربي الموحد بما قد يشمل خفض الدعم المقدم للمعارضة أو حتى الضغط عليها للقبول بحلول سياسية ما، وقد يعني أيضاً اتجاه أنقرة لتدوير الزوايا الحادة مع عدد من دول المنطقة مثل مصر و”إسرائيل”.
الخيارات التركية
هكذا تبدو تركيا في موقف لا تحسد عليه بما يخص العلاقة مع خصومها وحلفائها على حد سواء، لكنها بطبيعة الحال ليست معدومة البدائل والخيارات، بل تمتلك رؤية واضحة وواعدة للتعامل مع الأزمة، أهم ملامحها:
أولاً، تجنب المواجهة العسكرية مع روسيا، لنتائجها المدمرة على اقتصادها، وحتى لا تتحول إلى ساحة صراع بين روسيا والناتو، فضلاً عن الخوف من تعاظم دور المؤسسة العسكرية التركية وعودتها للسياسة من بوابة الحرب.
ثانياً، امتصاص موجة العقوبات الاقتصادية الروسية في مستواها الحالي الذي لم يمس أمن الطاقة لديها، والانفتاح على أسواق جديدة.
ثالثاً، التحلي بالهدوء والحكمة في وجه الاستفزازات الروسية وإبقاء باب الحوار والدبلوماسية مفتوحاً، والرهان على تسوية متدرجة تعيد الأجواء إلى ما كانت عليه قبل 24/11.
رابعاً، التنسيق الكامل – حالياً على الأقل – مع حلف الناتو وتحصين موقفها السياسي والقانوني.
خامساً، تنويع مصادر الطاقة بعقد اتفاقات مع كل من قطر وأذربيجان وغيرهما لتقليص الاعتماد على الغاز الطبيعي الروسي.
سادساً، محاولات تقوية العلاقات التنسيقية مع الدول الإقليمية – السعودية وقطر – ورفعها لمستوى “التحالف” وتشكيل “محور” إقليمي يمكن التعويل عليه لاحقاً.
سابعاً، قد تلجأ تركيا لزيادة دعمها للمعارضة السورية، الذي قد يتضمن أسلحة نوعية للمرة الأولى، لاستنزاف الروس في سوريا.
ثامناً، استثمار ورقة اللاجئين والحدود التركية – السورية للضغط على حلفائها الغربيين وتأكيد أهميتها بالنسبة لهم، بما يزيد من وزنها الاستراتيجي في معادلة المواجهة الحالية.
في الخلاصة، فقد وجهت تركيا فعلاً صفعة سريعة ومفاجئة لروسيا في ساعات الحدث الأولى، استثمرتها الأخيرة في خطوات عسكرية واستراتيجية تفرض واقعاً يحد من الدور التركي في سوريا والمنطقة بشكل كبير ويفقدها استقلاليتها النسبية عبر التماهي مع موقف الناتو، وهو ما وضعها بين مطرقة روسيا وسندان الحلف.
هذه الأضرار الاستراتيجية التي لحقت بتركيا ومصالحها قد تصبح مساراً لا عودة عنه إذا ما استمرت كرة الأحداث بالتدحرج نحو التصعيد بما يجعل أنقرة أسيرة لسيناريوهات المواجهة الروسية – الغربية و/أو صفقاتهما المحتملة، بينما يمكنها التقاط الأنفاس ومحاولة تعويض ما فاتها من خلال تحجيم مخاطر الحرب وعكس عجلة القطيعة الاقتصادية وفرض الحوار حلاً للأزمة الحالية والقضية السورية على حد سواء.
وفي كل ذلك، لا تزال أنقرة في حاجة ماسة إلى نسج تحالفات إقليمية تساعد في ردع موسكو وحلفها من جهة، وتساهم في تمايزها المأمول – على المدى البعيد – عن حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، فمن كان معلقاً بحبل النجاة لا يسعه تركه قبل أن تمتد له حبال وأيد بديلة.