انعكاسات أزمة القوقاز على العلاقات التركية – الروسية
الجزيرة نت
كغيرها من الأزمات المماثلة، تتجاوز أزمة التصعيد في جنوب القوقاز حدود المواجهة المباشرة بين أذربيجان وأرمينيا، نحو التأثير في شبكة العلاقات بين القوى الإقليمية والدولية المنخرطة فيها، وفي مقدمتها تركيا وروسيا.
ذلك أنه رغم جملة المصالح المشتركة بينهما والتفاهمات التي أبرماها في عدد من القضايا الإقليمية، إلا أن الأزمة الأخيرة أدت لحالة من التوتر بين البلدين ظهرت بعض مؤشراتها في أكثر من ملف، وإن لم يعبر عنها الطرفان صراحة وعلناً.
تقارب الخصوم
رغم الخصومة التقليدية التي تجمع البلدين منذ قرون، إلا أن العلاقات الثنائية بين روسيا وتركيا شهدت تحسناً ملحوظاً بعد انتهاء الحرب الباردة التي كانت وضعتهما في معسكرين متواجهين، قبل أن يزداد زخمها مع وصول العدالة والتنمية للحكم في تركيا في 2002، والذي قدم رؤية لسياسة خارجية جديدة “متعددة الأبعاد والمحاور”.
لكن السبب الرئيس في التقارب الملحوظ بين البلدين في السنوات القليلة الأخيرة كان سياسات حلفاء أنقرة الغربيين، الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، التي رأت فيها أنقرة تجاهلاً لها وإضراراً بأمنها وتناقضاً مع مصالحها الحيوية.
يبدو ذلك أوضح ما يكون في الأزمة السورية، حيث دعمت واشنطن، وما زالت، ميليشيات انفصالية مصنفة على قوائم الإرهاب التركية تحت لافتة مكافحة الإرهاب. كما سحبت عدةُ دول غربية عام 2015 بطاريات صواريخ باتريوت الدفاعية من أراضيها على غير رغبة منها. وتمنعت الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية عن بيعها المنظومة، فضلاً عن عدم حماسة حلف الناتو للوقوف معها خلال أزمة إسقاط المقاتلة الروسية.
في ظل كل ذلك، ومع انقلاب الموقف في سوريا بعد التدخل الروسي، والأزمة بين البلدين بعد إسقاط مقاتلة سوخوي، اختارت أنقرة تطبيع العلاقات مع موسكو، ثم تطويرها لاحقاً. وقد وصل الأمر بالخصمين التقليديين إلى علاقات متقدمة شملت ارتفاعاً في حجم التبادل التجاري، ومشاريع طاقة ضخمة مثل “السيل التركي” للغاز الطبيعي ومحطة “أك كويو” للطاقة النووية، وشراء تركيا منظومة إس400 الدفاعية الصاروخية الروسية، فضلاً عن حوارات وتفاهمات بين البلدين في ليبيا وسوريا وغيرهما.
أزمة القوقاز
لا يعني كل ما سبق أن العلاقة بين أنقرة وموسكو تحولت لتحالف من أي نوع، فما زالتا مختلفتين و/أو متنافستين في معظم الملفات والقضايا، من سوريا إلى ليبيا إلى البحر الأسود إلى شرق المتوسط إلى القرم إلى القوقاز مؤخراً. لكنها استطاعتا إدارة خلافاتهما بدون مواجهة مباشرة، بما أنتج تفاهمات في سوريا وليبيا، وطوّر مجالات التعاون بينهما.
تعدُّ القوقاز، ذات الأهمية الجيوبوليتيكية الاستثنائية، إحدى مناطق التنافس التقليدية بين الجانبين. فروسيا هي الحليف الأكبر لأرمينيا بينما تقف تركيا إلى جانب أذربيجان بالكامل. كما أن إطار التعاون الثلاثي الذي يجمع تركيا وأذربيجان وجورجياهو من زاوية أو أخرى مقابل إقليمي – وإن لم يكن بنفس الدرجة والقوة – لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي، وكذلك مجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية رغم تقاطع بعض أعضاء المنظمتين.
وإذا كانت موسكو تريد أن تحتكر إدارة النزاع الدائر في جوارها القريب، ففقد فتحت تطورات المواجهة الحالية نافذة لأنقرة لتزيد من نفوذها في المنطقة.
شهد الموقف الروسي متغيراً مهماً مؤخراً بسبب التقارب بين القيادة الأرمينية الحالية مع الغرب، حيث حرصت موسكو على أن تبدو وكأنها على الحياد تماماً في جولة التصعيد الحالية مؤكدة على ضرورة انسحاب أرمينيا من “الأراضي الأذربيجانية المحتلة”. في المقابل، فإن تركيا لا تخفي دعمها الكامل لباكو سياسياً وإعلامياً ولوجستياً، وإن لم تنخرط مباشرة في النزاع، لدرجة أن أخبار إسقاط القوات الأذربيجانية الطائرات المقاتلة الأرمينية باتت ترد في بيانات رسمية لوزارة الدفاع التركية.
وفق هذه المعطيات، يمكن القول إن روسيا تريد لجولة الصدام الحالية أن تكون تحذيراً ليريفان لإعادتها إلى الحضن الروسي أو حتى زيادة الضغط بغية تغيير القيادة الحالية بأخرى أقرب لها. لكنها بالتأكيد لا تريد هزيمة مذلة لها أو تفوقاً عسكرياً كاملاً لأذربيجان، ولذلك فقد رسمت خطوطاً حمراء للثانية تمثلت بعدم انتقال المواجهات إلى الأراضي الأرمينية. في المقابل، تريد أنقرة – ومعها باكو – لهذه الجولة أن تغير المعادلة الميدانية لزيادة أوراق قوة أذربيجان على طاولة التفاوض.
بهذا المعنى، تتفق كل من موسكو وأنقرة على ضرورة وقف إطلاق النار، ولكن من منطلقات متباينة ولأهداف مختلفة، حيث تسعى الأولى لمنع تدخل أي أطراف أخرى في الأزمة وإبقائها في يدها بالكامل، بينما تريد الثانية التزاماً أرمينيا واضحاً بالانسحاب من الأراضي التي تحتلها. كما أن الجانبين مختلفان فيما يتعلق بإقليم ناغورنو قره باغ، حيث تدعم تركيا عودتها للسيادة الأذربيجانية، بينما تفضل روسيا فيما يبدو وضعاً خاصاً للإقليم ذي الأغلبية الأرمينية.
في المحصلة،تريد روسيا من تركيا أن تلعب دوراً مسانداً، لإقناع باكو بالحل السياسي التفاوضي، وضمان عدم توسع الاشتباكات وانفلات الصراع، لكنها لا تريده دوراً منافساً ولا ندياً. بينما تسعى أنقرة لأن تكون ركناً رئيساً في الحل، بشكل ثنائي مع موسكو أو في إطار إقليمي – دولي ما، ولذلك تتركز انتقاداتها واتهاماتها بالفشل والانحياز لثلاثي رئاسة مجموعة مينسك.
مؤشرات توتر
سبقَ جولةَ التصعيد عدم توافق البلدين بخصوص إدلب في سوريا رغم عدة جولات من الحوار لم تكلل باتفاق جديد أو تفاهم ما، لكن أزمة القوقاز عمّقت بشكل واضح التوتر بين البلدين، رغم أنهما تجنبا التصعيد الإعلامي المباشر ضد بعضهما البعض حتى لحظة كتابة هذه السطور.
ففي المقام الأول، ورغم أهمية الملف وحساسيته، لم تجمع قمة ثنائية بين الرئيسين بوتين واردوغان اللذيْن كانا يلتقيان في محطات أقل شأناً من هذه، حيث اكتفيا ببعض الاتصالات الهاتفية، وهو مؤشر ذو دلالة واضحة. كما أن روسيا لم تستجب لمطالبات أذربيجان بإشراك تركيا في الحوارات التي رعتها، وما زالت تماطل في ذلك.
أكثر من ذلك، فقد شاركت روسيا كلاً من أرمينيا وفرنسا ضمناً وتلميحاً في اتهام تركيا بنقل مقاتلين سوريين إلى جبهات القتال في القوقاز، حيث نقلت وكالة سبوتنيك الروسية عن مصادر “إرسال أكثر من 1000 مسلح من سوريا إلى قره باغ”، بينما قال مساعد وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف إن بلاده “تناقش مع تركيا مسألة مشاركة مرتزقة من سوريا وليبيا” في المعارك.
مؤشرات التوتر انتقلت للملفات الأخرى كذلك، فغاب الاتفاق بينهما في الملف الليبي ما ساعد ضمن عوامل عديدة على انتقال المبادرة لأطراف أخرى.
وفي سوريا، تواصل روسيا الحديث عن المنظمات الإرهابية وضرورة سيطرة النظام على كامل الأراضي السورية. ورغم اتفاق سوتشي وملحقاته، انتهكت روسيا في السادس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر الفائت وقف إطلاق النار بقصفها معسكراً تابعاً لفصيل “فيلق الشام” في إدلب مخلفة عشرات القتلى والجرحى.
في هذه الأجواء المتوترة والتهديد بعملية عسكرية جديدة للنظام بدعم روسي، فككت أنقرة نقطة المراقبة التابعة لها في “مورك” وسحبت جنودها منها، مع أنباء عن نيتها تفكيك نقاط أخرى. وكانت هذه النقاط قد باتت محاصرة من قبل قوات النظام بعد تقدمه الأخير قبل أشهر، وقد رفضت أنقرة مراراً طلبات موسكو بتفكيكها بعد أن فقدت أهميتها إذ لم تعد على خطوط التماس، وظلت تطالب بعودة قوات النظام إلى حدود اتفاق سوتشي.
هذه الخطوة التي أتت بعد عدة جولات من الحوار بين الجانبين تشير بوضوح إلى تخوف أنقرة على سلامة جنودها في تلك النقاط، ما يعني أن موسكو لم تقدم لها الضمانات الكافية لتأمين سلامة الجنود في النقاط وأولئك الذين يزودونها بما تحتاجه.
خاتمة
في الخلاصة، أضافت أزمة ناغورنو قره باغ للتوتر القائم بين تركيا وروسيا إثر خلافاتهما في أكثر من ملف. تزداد أهمية هذا التوتر – وخطورته – بسبب تزامنه مع تلويح الاتحاد الأوروبي بعقوبات على تركيا والانتخابات الأمريكية التي ستحمل على الأغلب جو بايدن للمكتب البيضاوي.
ذلك أن أنقرة، الحريصة على التوازن النسبي بين مختلف شركائها، طالما استثمرت في الخلافات الروسية – الأمريكية، لكن تعرُّضَها لضغوط متزامنة من شركائها الغربيين (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) والروس يضيّق الخيارات أمامها بشكل كبير. خصوصاً وأن المطالب الأمريكية بإلغاء صفقة إس400 ليست خياراً ممكناً بالنسبة لها (وإن كانت ستؤخر تفعيلها)، إلا إن استطاعت تسوية معظم ملفاتها الخلافية مع واشنطن، وهو أمر مستبعد في المدى القريب على أقل تقدير.
أما فيما يتعلق بأزمة القوقاز، تفضّل تركيا تفاهمات مباشرة مع روسيا على شاكلة التفاهمات في سوريا، بما يخفض من مستوى التوتر معها ويكون رافعة لثقلها الإقليمي عموماً وفي القوقاز خصوصاً. لكن روسيا ما زالت غير راغبة في ذلك، بما يوحي باحتمال ارتداد ذلك في ملفات أخرى على شكل تطورات ساخنة، ولعل إدلب هي الساحة الأقرب لذلك.