أخيراً، أنهت لجنة التحقيق المنبثقة عن مجلس الشعب التركي أعمالها وأصدرت قرارها المنتظر بحق الوزراء الأربعة في الحكومة التركية الذين استقالوا أو أقيلوا على هامش اتهامات بالفساد في 17 كانون أول/ديسمبر 2013.
بموافقة تسعة أصوات ومعارضة خمسة، أصدرت اللجنة قرارها (توصيتها) بعدم تقديم الوزراء الأربعة للمحكمة العليا، وشرحت أن مسوغ قرارها يكمن في قرار “عدم الملاحقة” الذي أصدره المدعي العام بخصوص الوزراء الأربعة، وهو ما فتح الباب واسعاً للجدل السياسي والإعلامي واتهامات المعارضة للحزب الحاكم بالتستر على الفساد المالي والوقوف حائلاً أمام محاكمة الوزراء السابقين.
والواقع أن البعدين السياسي – الإعلامي والقانوني – الحقوقي متداخلان في هذه القضية بشكل معقد منذ بداياتها، ويبدو أن الطرفين كان مطلوباً منهما الموازنة أو المفاضلة بينهما على طول الخط. فمقاربة العدالة والتنمية تقول إن الأمر يتعدى إطار قضية فساد (محتمل) عادية إلى محاولة إسقاط الحكومة، ولذلك فقد انشغل منذ البداية بالبعد السياسي – الإعلامي مؤجلاً البعد القانوني – الحقوقي.
هكذا، تم تأجيل إقالة أو استقالة الوزراء لحين تأمين خطة الحكومة في مواجهة ما اعتبرته انقلاباً قضائياً عليها، ثم كانت المماطلة والتأجيل مراراً حتى لا تؤثر هذه القضية على نتائج الانتخابات المحلية ثم الانتخابات الرئاسية. والآن، وبعد صدور قرار اللجنة تتجه الأنظار مجدداً إلى الانتخابات البرلمانية في شهر حزيران/يونيو القادم وتثار التساؤلات حول تأثير ذلك على الملف؟ فما هي السيرورة المتوقعة الآن بعد القرار؟
يفترض أن تسلم اللجنة قرارها لرئيس البرلمان في حد أقصاه العاشر من الشهر الحالي، على أن يوزع الأخير نسخة منها لجميع النواب، تمهيداً لمناقشة المجلس ثم تصويته على الموضوع في مدة أقصاها نهاية الشهر الحالي. وفي الجلسة المرتقبة التي ستناقش كل وزير على حدة وكل تهمة بشكل منفصل، يحتاج القرار بتحويل أي وزير للمحكمة العليا إلى 276 صوتاً وهو ما يجعل قراراً كهذا مستبعداً، لسبيين:
الأول، أن المعارضة مع المستقلين – بفرض تصويتهم جميعاً بالموافقة – يملكون 223 صوتاً فقط من أصل 276 مطلوبين لمثول الوزراء أمام المحكمة العليا.
الثاني، رغم أن التصويت سيكون سرياً وهو ما قد يشجع بعض نواب الحزب الحاكم على التوصيت بالموافقة بعيداً عن الحرج الحزبي والضغوطات الداخلية، إلا أن المتوقع هو رفض غالبيتهم للقرار، باستدلال نسبة التصويت في لجنة التحقيق (9 رفض في مقابل 5 قبول) والتي تعني أن “كل” أعضاء اللجنة من العدالة والتنمية رفضوا القرار بينما “كل” أعضاء اللجنة من المعارضة قبلوه، وهو ما يمثل مرة أخرى انعكاساً لطغيان البعد السياسي للقضية على البعد القانوني (تتشكل اللجنة من 14 عضواً حسب نسب الأحزاب المختلفة في البرلمان، 9 منهم من العدالة والتنمية، 3 من الشعب الجمهوري، 1 من الحركة القومية، بينما انسحب حزب الشعوب الديمقراطي منها).
وباعتبار أن المحكمة العليا هي الهيئة الوحيدة المخولة بمقاضاة الوزراء (ورئيس الحكومة) وفق آلية تضبطها المادة رقم 100 من الدستور والمادة 107 وما تلاها من النظام الأساسي لمجلس الشعب، فإن التصويت المنتظر يعتبر آخر احتمال لمقاضاة الوزراء المذكورين وفق القضية الحالية.
لكن المعارضة، من جهة أخرى، تعوّل – في حال فشل التصويت القادم – على قانون العقوبات التركي الذي ينص على أن الاتهامات المنوطة بالوزراء لا تسقط بالتقادم إلا بعد 8 سنوات، وتستأنس بخلفية تاريخية تتضمن مثول رئيس الوزراء الأسبق مسعود يلماظ و15 نائباً سابقاً أمام المحكمة العليا في قضايا مختلفة منذ العام 1964. وهو ما يقدم فرصة مستقبلية محتملة لها بتقديم الوزراء السابقين للمحاكمة إذا ما أتت رياح الانتخابات القادمة بما لا تشتهيه سفن العدالة والتنمية، لكنه يعطيها قبل ذلك – وهو الأهم بالنسبة لها – فرصة ثمينة لإبقاء القضية في التداول الإعلامي لمحاولة استثمارها في الحرب السياسية والإعلامية مع العدالة والتنمية مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي الأهم هذه السنة.
وبذلك، يبقى الشق السياسي للقضية سابقاً على الشق القانوني في مراحلها الثلاث. حين قدم الحزب الحاكم أولوية الجانب السياسي ابتداءً معرضاً نفسه لضغوط داخلية وخارجية شديدة، والآن رغم أن القضية تتم وفق الخطوات القانونية الصحيحة وبلا أي تجاوزات، ولاحقاً حين ستحتفظ المعارضة بإمكانية استثمار هذه القضية في مواجهة الحكومة حتى ولو انتهت إلى براءة الوزراء، وهو ما سيعني استمرار الاستهداف الإعلامي والخسارة السياسية للعدالة والتنمية، الخسارة التي تبدو محسوبة ومقبولة من طرفه في سياق قياسها إلى خسارة أكبر كانت ستتمثل بسقوط الحكومة، بل وربما بفشل التجربة تماماً.