الهدنة وما بعدها: توقف الحرب أم استئنافها؟
TRT عربي
24 تشرين الثاني/نوفمبر 2023
صباح الثاني والعشرين من الشهر الجاري، أعلنت دولة قطر عن التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار في غزة أنتجتها وساطتها بين الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، يتخللها تبادل أسرى ومحتجزين من النساء والأطفال. ولأنها تأخرت كثيراً، حتى اليوم السابع والأربعين بسبب مماطلة نتنياهو ورفضه، فإن دلالاتها تتجاوز الهدن المؤقتة التقليدية في المواجهات السابقة.
الدوافع
منذ بداية العدوان على قطاع غزة، أعلنت حركة حماس عن نيتها إطلاق سراح أسرى من المدنيين وحملة الجنسيات الأجنبية وعدَّتهم “ضيوفاً” لديها حتى ذلك الوقت، باشتراط حصول وقف لإطلاق النار لإتاحة الفرصة لذلك. ولأن نتنياهو وحكومته ومن خلفهما الولايات المتحدة الأمريكية رفضوا بشكل قاطع ولمدة طويلة فكرة وقف إطلاق النار خوفاً من استفادة حماس والمقاومة منها، ينبغي البحث عن الأسباب والدوافع التي أنتجت الاتفاق الأخير لديهم لا الطرف الفلسطيني، وهي في مجملها تحيل على معنى إذعان الاحتلال وتراجعه عن مواقفه السابقة تحت ضغط أداء المقاومة وصمود الشعب.
ثمة أسباب عديدة دفعت الاحتلال للموافقة على الاتفاق الأخير، ليس من بينها أسباب إنسانية وإن ادعى الأخير ذلك، فوقف آلة الحرب لأسباب “إنسانية” يقتضي أن يحصل ذلك منذ أسابيع عديدة وليس بعد أكثر من شهر ونصف من العدوان المتواصل.
السبب الأول والأهم هو فشل الاحتلال حتى لحظة حصول الاتفاق في تحرير أسراه في غزة بالأدوات العسكرية والأمنية كما ادعى وهدد وخطط، حيث لم يستطع تحرير ولو شخص واحد من يد المقاومة باستثناء إعلانه عن تحرير مجندة اتضح لاحقاً أنها لم تكن أصلاً ضمن أسرى السابع من أكتوبر ما عرضه للانتقاد والسخرية.
والثاني هو الفشل العسكري والأمني المركّب للاحتلال، حيث عجز بعد أكثر من شهر ونصف من العدوان المستمر الذي تخللته المجازر وجرائم الحرب عن تقديم أي صورة للنصر، ولو جزئية ولو هامشية أو حتى مدّعاة. فلم ينجز الأهداف المعلنة للحرب، ولا دمر البنية العسكرية لكتائب القسام، ولا كشف شبكة أنفاقها أو مقارها القيادية، ولا اغتال الشخصيات التي توعدها، ولا أسر ولو مقاوماً واحداً من ميدان المعركة فضلاً عن أن يحرر أسراه.
ومردّ ذلك للصمود الأسطوري الذي أظهره الشعب الفلسطيني وكذلك الأداء البطولي الذي أظهرته المقاومة الفلسطينية، بما في ذلك ما حازته من مصداقية في توثيق عملها المقاوم. ويتصل بذلك مستوى الخسائر التي تعرض لها الاحتلال حتى لحظة إعلان التهدئة في الجنود والضباط من جهة والأسلحة والعتاد من جهة ثانية، فضلاً عن الخسائر الاقتصادية وخسارة الصورة والسردية. ومنها كذلك تعب المؤسسة العسكرية “الإسرائيلية” وإنهاكها في الحرب على مدى أكثر من ستة أسابيع، لا سيما مع ما تعرضت له قوات النخبة في غزة من خسائر.
ومن أهم الأسباب ضغط الجبهة الداخلية على حكومة نتنياهو، التي يحمّلونها مسؤولية الفشل في السابع من أكتوبر، وتراجع تأييد العملية العسكرية، وتزايد حركة الاحتجاج لأهالي الأسرى لدى المقاومة. وقد زاد من أثر ذلك إعلان المقاومة الفلسطينية عن مقتل عدد من الأسرى بسبب القصف “الإسرائيلي”، ما جعل الوقت يعمل لغير صالح نتنياهو وحكومته.
وفي مقدمة الأسباب حرج الإدارة الأمريكية التي باتت تواجه معارضة داخلية واضحة بسبب دعمها اللامحدود للعدوان “الإسرائيلي” وما يتخلله من مجازر، إضافة للدعم المالي، ما تسبب بتراجع شعبية بايدن وهو مؤشر مقلق بالنسبة له وللحزب الديمقراطي مع اقتراب الانتخابات الرئاسية بعد أقل من عام. ومنها كذلك الرأي العام العالمي الذي يتجذر ويتعمق فيه التنديد بجرائم الاحتلال وتتعزز لديه سردية الحق الفلسطيني، ما يساهم في زيادة الضغوط على “إسرائيل” وداعميها.
الدلالات
في بيانها المقتضب، أعلنت وزارة الخارجية القطرية عن التوصل لاتفاق لهدنة إنسانية تستمر لأربعة أيام قابلة للتمديد، وتشمل تبادلاً للأسرى من النساء والأطفال، ودخول قوافل المساعدات. بينما كانت حماس أكثر حرصاً على التفاصيل، فذكر بيانها أن الاتفاق يشمل وقف كافة الأعمال العسكرية لجيش الاحتلال بما في ذلك وقف حركة الطيران جنوب القطاع طوال الهدنة وست ساعات يومياً شماله، وإدخال مئات شاحنات المساعدات، وإطلاق 50 من محتجزي الاحتلال من النساء والأطفال مقابل 150 من النساء والأطفال الفلسطينيين في سجون الاحتلال، وضمان حرية انتقال الناس من شمال القطاع لجنوبه وامتناع الاحتلال عن اعتقال أو استهداف أحد.
في الخطوط العامة، يتضح أن الاحتلال قد رضخ أخيراً لمبدأ الهدنة الإنسانية المؤقتة التي رفضها طويلاً بما يعني الاعتراف بالفشل العسكري والأمني لا سيما فيما يتعلق بتحرير الأسرى، وانتقل من الحديث عن إفناء المقاومة وإنهائها للحديث والتفاوض معها، ووافق على الكثير من شروطها، بدءاً من مبدأ الهدنة ومدتها الزمنية مروراً بتبادل الأسرى والمحتجزين وليس انتهاءً بوقف العمليات العسكرية وحركة الجو ودخول المساعدات لكل غزة.
ورغم أن بنود الاتفاق فيها ما يمكن أن يختلف تفسيره بين المقاومة والاحتلال وبالتالي يمكن عدُّه ثغرات يمكن أن تشكل تحديات كبيرة في مسار التطبيق، إلا أن السؤال الأهم يفرض نفسه. هل تكون هذه الهدنة بوابة لعدة هدن متتالية تفضي في نهاية المطاف لانتهاء الحرب؟ أم إنها هدنة محددة ومؤقتة سيعود العدوان بعدها أشرس مما كان عليه؟
منطقياً، يبدو الخيار الأول أرجح لما سبق ذكره من أسباب وعوامل مؤثرة، في مقدمتها الموقف العسكري والأمني، والضغط الأمريكي والرأي العام الدولي، وطبيعة تدرج الهدن عادة في الحروب، وسلامة بنية المقاومة، وإفلاس بنك أهداف الاحتلال إلا من المدنيين. كما أن ما ستكشفه الهدنة من دمار وجرائم في غزة من غزة وأعداد القتلى من الأسرى والمحتجزين “الإسرائيليين” على يد جيش الاحتلال نفسه سيدفع بنفس الاتجاه من باب تأجيج الضغوط الخارجية والاعتراضات الداخلية.
لكن الأمور لا تحسم بالمنطق دوماً، إذ ثمة عوامل ستدفع باتجاه تصعيد الحرب بعد انتهاء الهدنة، في مقدمتها تعطش جيش الاحتلال للدماء وافتقاره حتى اللحظة لصورة انتصار – ولو موهوم – ليسوقها داخلياً، ورغبة نتنياهو في إطالة أمد الحرب ما أمكن لتجنب مرحلة التقييم التي ستشمل نهاية حياته السياسية على الأغلب، وركون الاحتلال لاستمرار الدعم الأمريكي المطلق الذي سيجنبه أي حساب على الساحة الدولية.
كما أن هذا النوع من الهدن يتخلله عادة تفسيرات متباينة من الطرفين لبعض المواد الفضفاضة في الاتفاق، ما يفتح الباب على خروقات واعتراضات قد تؤدي لانهيار الهدنة قبل أن ينقضي وقتها ربما.
في المقابل، فإن الحديث عن إمكانية تمديد الهدنة في حال أمنت المقاومة الفلسطينية أعداداً إضافية من المحتجزين بواقع يوم لكل 10 منهم، يفتح الباب على إمكانية التمديد أكثر من مرة، بما يرفع من احتمالات التوصل لاتفاق نهائي لاحقاً، خصوصاً وأنه من المتوقع أن يكون بين يدي المقاومة عدد أكبر من خمسين منهم.
وعليه، فما نتوقعه هو ألا يكون الاتفاق الحالي هو إعلان نهاية الحرب، إذ ستعود الآلة العسكرية “الإسرائيلية” للقصف والقتل في غزة لتقديم رسالة قوة واستمرارية للجبهة الداخلية التي توليها الأهمية الكبرى. لكنه في المقابل يعدُّ أرضية سيمكن البناء عليها مستقبلاً لتطويرها وتحويلها لاتفاق مستدام، خصوصاً إذا ما استمر صمود الشعب الفلسطيني وأداء مقاومته الباسل وفق ما هو متوقع.
ويبقى الموقف الأمريكي في نهاية المطاف في مقدمة العوامل المحددة للقرار “الإسرائيلي” الميداني، إذ من غير المتوقع أن يستمر دعم واشنطن للعدوان بشكله الحالي إلى ما لا نهاية، لا سيما مع الخسائر السياسية والانتخابية التي يتعرض لها بايدن بسبب ذلك في حزبه وعموم الولايات المتحدة كذلك.