يقولون أنه بالإمكان تزييف حقائق التاريخ، بينما لا يمكن تزوير حقائق الجغرافيا. إذ تلعب العوامل الجغرافية المختلفة، مثل المساحة وعدد السكان والحدود ودول الجوار وغيرها، دوراً بارزاً في تشكيل السياسات الخارجية للدول بما تفرضه من حقائق، وهو ما يسمى علم الجيوبوليتيك. وقد ربط الجيوبوليتيك بين مصر وفلسطين، وخاصة قطاع غزة، بحيث تكون الأولى عمق الثانية الاستيراتيجي والثانية بوابة الأمن القومي للأولى.
حقائق الجيوبوليتيك بين مصر وفلسطين
منذ بدايات القضية الفلسطينية كان لمصر الدور الأبرز فيها عربياً وإقليمياً لأسباب تتعلق بمصر ذاتها وأخرى ترتبط بعلاقاتها مع فلسطين. فمصر أكبر الدول العربية من حيث القوة والتأثير تبعاً لمساحتها وعدد سكانها والقوة الناعمة التي تمتلكها، فضلاً عن تاريخها السياسي الحديث وتمركزها في قلب العالم العربي.
كما ارتبط تاريخ مصر حرباً وسلماً بالقضية الفلسطينية لأسباب أخرى تتعلق بالجوار، والحدود المشتركة، وقناة السويس، وقيادة مصر للصف العربي، والحالة الشعبية المتعاطفة مع القضية الفلسطينية، ودور النخب – الإسلامية والقومية واليسارية – في دعمها. فكان أن خاضت مصر الرسمية الحروب، وشارك المتطوعون المصريون وخاصة من الإخوان المسلمين في بعضها، ونشطت حركة رفض التطبيع في النقابات والاتحادات المهنية المختلفة وبين عموم المواطنين.
وفق هذه الحقائق التي لا يمكن تخطيها، كانت مصر الحليف الأقوى والأبرز لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، تحديداً في زمن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. وربما لهذا السبب تحديداً تم رسم دور آخر لمصر بعد معاهدة كامب ديفيد، تبلورتبشكل أوضح في عهد مبارك. وهو الحفاظ على حالة الهدوء السائدة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وامتصاص الأزمات ونزع الفتيل في حال نشوب أي صراع، والحفاظ على سقف المواجهة لإبقائها تحت السيطرة.
ورغم أن أواخر عهد مبارك حمل في طياته توجهاً أكثر عدوانية مع فوز حركة حماس في انتخابات عام 2006، إلا أنه لم يخرج عن هذا الإطار. فرغم أن مبارك شدد الحصار على القطاع وشرع في بناء حائط فولاذي على حدوده، ورغم إعلان تسيبي ليفني الحرب على حماس عام 2008 من القاهرة، إلا أن النظام عمل على منع الانفجار التام بالتوسط لوقف إطلاق النار، وفتح الحدود والمستشفيات بدرجة معينة لاستقبال الجرحى، وتصريح مبارك الشهير “لن أسمح بتجويع الفلسطينيين”.
هكذا، كان يقع على عاتق النظام المصري دوماً منع الأمور من الوصول إلى نقطة اللاعودة، مستثمراً شعرة معاوية التي حافظ عليها بينه وبين قوى المقاومة التي لا يكن لها الكثير من الود، لأسباب كثيرة تتعلق بمنظومتها الفكرية المستلهمة من عدوه الداخلي (الإخوان المسلمين) وأخرى تتعلق بتوصيفها للصراع ورؤيتها لطريقة حله.
الثورة تغير المعادلة
استمرت مصر بعد الثورة في عهد المجلس العسكري بنفس الدور وبذات السقف والحدود، لكن عهد أول رؤسائها بعد الثورة حمل تغيراً مهماً. إذ بعد أقل من أربعة أشهر على توليه الرئاسة اغتالت إسرائيل قائد حماس العسكري أحمد الجعبري مبتدئة حرباً استمرت ثمانية أيام، حمل الموقف المصري فيها جديداً يصعب إغفاله، تمثل فيما يلي:
أولاً، زيارة رئيس الوزراء هشام قنديل لقطاع غزة منذ الساعات الأولى للعدوان، تضامناً وكسراً للحصار.
ثانياً، قوافل المساعدات الإغاثية والطبية للقطاع.
ثالثاً، الزيارات التأييدية للعديد من الوفود الشعبية والنقابية.
رابعاً، دعم المطالب الفلسطينية في اتفاق الهدنة الذي رعته مصر، وأعلن بنوده قائدا حماس والجهاد من القاهرة.
خامساً، تصريحات الرئيس المصري المتلفزة وعلى مواقع التواصل الاجتماعي عالية السقف، حين قال لأهل غزة “أنتم منا ونحن منكم، ولن نترككم وحدكم”.
ويرى بعض المراقبين أن هذا الدور المتقدم في الحرب كان أحد العوامل التي سرّعت – إلى جانب عوامل أخرى كثيرة – خطوات الانقلاب عليه، وشجعت الكثير من الدول الإقليمية والعالمية لتأييد تحرك السيسي أو على الأقل السكوت عنه.
مصر بعد الانقلاب .. انقلاب على الدور
حمل الانقلاب في مصر أخباراً غير سارة للقضية الفلسطينية ولقوى المقاومة تحديداً منذ ساعاته الأولى. فقد تم إغلاق معبر رفح وبدأ قصف الأنفاق التي تمثل شريان الحياة الرئيسي للقطاع قبل أي موقف رسمي أو شعبي فلسطيني مما حدث في مصر. كما شنت وسائل الإعلام المحسوبة على النظام الجديد حرباً إعلامية غير مسبوقة لتشويه صورة الفلسطينيين عموماً وحركة حماس خصوصاً، باتهامها بالتدخل في شؤون مصر، وفتح السجون خلال الثورة، وقتل الجنود المصريين في رفح، وإرسال مقاتليها لدعم مرسي خلال فترة حكمه.
لكن التطورات الأبرز والأكثر تأثيراً على دور مصر في القضية الفلسطينية تمثل في التالي:
- صدور حكم محكمة باعتبار حركة حماس حركة إرهابية وحظر أنشطتها في مصر، في موقف سياسي أكثر منه قضائياً.
- اعتماد موقف سياسي يعادي حماس ويعتبرها تهديداً لأمن مصر القومي في فترة حكم الرئيس المؤقت عدلي منصور، استمر به وبنى عليه الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي.
- أظهرت الحرب الحالية تغيراً جوهرياً في الموقف المصري الذي ابتعد لأول مرة عن مجرد التنديد اللفظي بالعدوان، الذي لم يتطرق له السيسي إلا بعد 17 يوماً من بدايته في خطابه في ذكرى ثورة يوليو واصفاً إياه بـ”الأزمة”. كما ساوت الخارجية المصرية بين الطرفين حين دعت “كلاً من إسرائيل والفصائل الفلسطينية إلى وقف فوري لإطلاق النار” ضمن مبادرة طرحتها دون حتى أن تعرضها على فصائل المقاومة، ثم توج وزير الخارجية موقف بلاده بتحميل حماس مسؤولية عدد الشهداء الكبير.
- حملة ضارية في الإعلام المصري، تهاجم المقاومة الفلسطينية وتتهمها بمعاداة مصر ومحاربة دورها، حتى وصل الأمر بإعلامي معروف أن يشكر نتنياهو على عدد القتلى الفلسطينيين ويطالبه بالمزيد، بل ويزعم أن مصر مستعدة لمناصرة الفلسطينيين في غزة إن قاموا بثورة على حكم حماس فيها.
- إصرار الخارجية المصرية على رفض تعديل مبادرتها، رغم رفض عامة الفصائل الفلسطينية لها، وتغير الوضع الميداني، وصدور إشارات من الأمريكان والإسرائيليين بإمكانية التعديل، بما يوحي أن السياسة الخارجية الحالية لمصر بدأت تعمل وفق المنطق الكيدي، وتبدو أكثر تشدداً في وجه حماس من نتنياهو نفسه.
وكما تتحدد مكانة وأهمية الدول بحقائق الجيوبوليتيك، فإنها تتأثر أيضاً بالدور التي تضطلع به في ملفات معينة. وبنظرة سريعة، سنرى أن مصر فقدت مؤخراً تأثيرها في كثير من القضايا الإقليمية المهمة، ابتداءً من قناة السويس التي لا سلطة فعلية لها عليها، مروراً بالملف الإفريقي الذي فقدت معظمه في زمن مبارك وما بقي منه في عهد السيسي (السد الإثيوبي مثالاً)، وصولاً إلى قيادة الصف العربي التي تركتها مصر مؤخراً للسعودية مكتفية بالتبعية، وما مشهد السيسي في طائرة العاهل السعودي منا ببعيد.
هكذا لم يكن قد بقي في يد القاهرة إلا الملف الفلسطيني المحكوم بالجوار ومعبر رفح، والذي يبدو النظام القائم حالياً في مصر على وشك فقدانه هو أيضاً، بسبب سياسات بعيدة عن الدور المرسوم فضلاً عن الدور المأمول من مصر. فموقف الأخيرة من الحرب الحالية، بما في ذلك المبادرة والتصريحات والتصلب إزاء قوى المقاومة، جعل القاهرة خارج دائرة التأثير، ونقل مفاوضات التهدئة منها إلى العاصمة القطرية التي أصبحت محج الوفود الدولية، ليس فقط بسبب إقامة قيادة حماس هناك، ولكن أيضاً لأن القاهرة فقدت دور الوسيط الذي كانت تلعبه لعشرات السنوات.
وتكمن المفارقة أن هذا الموقف المستجد من القاهرة ليس مرفوضاً فقط من الفلسطينيين، ولكن أيضاً من الولايات المتحدة نفسها (وربما إسرائيل). إذ لا تريد الأخيرة من مصر أن تلعب دور الضاغط على الفلسطينيين – الذي يلعبه كثر في مقدمتهم إسرائيل – بل دور الضامن أن لا تتدحرج الأمور نحو المجهول أو تتخطى نقطة اللاعودة، ومواقف القاهرة الأخيرة أفقدتها هذه الإمكانية.
خلاصة القول أن السياسات الكيدية والخارجة عن إطار الأعراف الدبلوماسية وتاريخ مصر في القضية الفلسطينية، وتعامل النظام الحالي غير المفهوم مع بوابة مصر الشرقية وإحدى مفردات أمنها القومي لدرجة جعلت البعض يتخوف من تدخل عسكري مصري مباشر في غزة، كل ذلك على وشك أن يسقط من يد مصر آخر الملفات التي ما زالت تحتفظ بدور لها فيها، الأمر الذي يعمق من أزمات النظام المصري الحالي، إذ هو سائر في طريق إلغاء أو تقليل مسوغات وجوده بالنسبة للمجتمع الدولي، الولايات المتحدة تحديداً.