تستمر منذ أيام العمليات العسكرية العدائية لدولة الكيان ضد الفلسطينيين في قطاع غزة، موقعة أكثر من 120 شهيداً ومئات الجرحى، فضلاً عن تدمير المنازل وهدمها على رؤوس أصحابها. وكما في كل حرب خاضها الاحتلال ضد الفلسطينيين تتوجه الأنظار مباشرة إلى الدول الفاعلة التي يمكن لها أن تقدماً موقفاً متقدماً يساعد على إنهاء العدوان وتقليل الخسائر، وفي مقدمتها تركيا.
وقد كان لتركيا في حرب حجارة السجيل (عام 2012) دور فاعل في اتفاق وقف إطلاق النار الذي أبرم بين دولة الاحتلال والمقاومة الفلسطينية في القاهرة بوساطة مصرية، فما الذي قدمته أو تستطيع تركيا تقديمه في الحرب الحالية؟
سقف الطموح
لا شك أن الفلسطينيين، وفي مقدمتهم قوى المقاومة، يعولون على دور أكبر لتركيا في المعادلة الإقليمية، ويطمحون إلى دعم أكبر وأوضح في شتى المجالات، وليس فقط في مجال المساعدات الإنسانية أو التصريحات السياسية المعتادة، وذلك لاعتبارات عديدة منها:
أولاً، تركيا دولة قوية سياسياً واقتصادياً، وبالتالي يمكن أن تكون نداً لدولة الاحتلال.
ثانياً، الموقف التركي الداعم للحق الفلسطيني رسمياً، خاصة مع حكم العدالة والتنمية منذ 12 عاماً، والتدرج التركي في الدعم، إغاثياً وإعلامياً وسياسياً واقتصادياً.
ثالثاً، الحالة الشعبية الطاغية بدعم الشعب الفلسطيني، والتي يمكن أن تكون ظهيراً لأي موقف تركي عالي السقف، باعتبار أن أحدد محددات السياسة التركية هو التساوق مع رغبة وتوجه الشارع التركي.
رابعاً، العلاقات المتوترة بين تركيا ودولة الكيان، والتي تدرجت حتى وصلت حد القطيعة مع اعتداء القوات العسكرية الصهيونية على سفينة مرمرة الزرقاء عام 2010 وقتل 10 من النشطاء الأتراك، هذه القطيعة التي لم تنته بعد رغم العديد من الخطوات التي تمت، والكثير من التصريحات الإيجابية التي أوشت بقرب انتهائها.
خامساً، امتلاك تركيا أوراق ضغط كثيرة يمكن استثمارها ضد دولة الكيان، مثل ملف المصالحة وإنهاء القطيعة، والعلاقات التجارية المنتعشة بين البلدين، وحاجة الأخيرة لتركيا في ظل التغيرات التي تشهدها المنطقة، واستثمار العلاقة مع الولايات المتحدة للضغط على حليفتها للجم عدوانها.
محددات وعوائق
لكن تركيا لم تقدم حتى الآن المعول عليها والمنتظر منها كدولة إقليمية كبيرة، في ظروف كهذه يقتل فيها الأطفال وتهدم فيها البيوت على رؤوس من فيها فيدفنوا وهم أحياء تحت أنقاضها. وإذا ما أردنا أن نقيّم معوقات السياسة الخارجية التركية سنلمح التالي:
أولاً، نمطية السياسة الخارجية التركية التي تسارع إلى المساعدات الإنسانية والتصريحات الداعمة، لكنها تبتعد عن المواقف السياسية الحادة أو المواجهة المباشرة (الموقف من سفينة مرمرة كان تشابكاً بين العاملين الداخلي والخارجي، إثر سقوط 10 شهداء من النشطاء الأتراك).
ثانياً، إرث الحكومات التركية السابقة الذي ورثته حكومات العدالة والتنمية، وتبدو حتى الآن غير قادرة على تخطيه تماماً، في الأمن والجيش تحديداً.
ثالثاً، عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي، وتحالفها مع الولايات المتحدة الأمريكية، وملف عضوية الاتحاد الأوروبي، مما يضع سقفاً صعب الاختراق لأي تحرك تركي في هذا الاتجاه.
رابعاً، العلاقات الدبلوماسية شبه المقطوعة بين تركيا ودولة الاحتلال، مما يضعف من إمكانيات الضغط أو لعب دور الوسيط.
خامساً، الحذر التركي في التعامل مع ملفات المنطقة، بعد الحماسة الشديدة التي تعاملت بها مع الملف السوري، خاصة في ظل الشعور بأنها ودورها مستهدفان داخلياً وخارجياً، ولذلك تحاول تركيا أن لا تقوم بخطوات كبيرة في السياسة الخارجية كي لا تركز الأنظار عليها مرة أخرى.
سادساً، ربما يكون لقرب الانتخابات الرئاسية التركية (بعد أقل من شهر من الآن) دور في حذر الحكومة التركية، حيث لا تريد أن تواجهها أي مفاجآت أو تصعيد قبيل هذه الانتخابات الهامة، والتي ستحدد بوصلة وأفق تركيا في السنوات القليلة القادمة.
الخطوات التركية
وفي ظل التوازنات بين الممكن والمأمول، وبين الطموح والمعيقات، قامت تركيا بعدة خطوات منذ بدء العدوان الصهيوني على قطاع غزة، تمثلت فيما يلي:
أولاً، الإدانة الواضحة للعملية العسكرية من كل المستويات السياسية، رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء والخارجية التركية، ودعوة دولة الاحتلال لوقف العمليات العسكرية فوراً.
ثانياً، دعوة المؤسسات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة للتدخل وتحقيق وقف إطلاق النار، والقيام بعد لقاءات واتصالات لتحقيق ذلك.
ثالثاً، اتصال رئيس الوزراء التركي بخالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس التي تقود المواجهة مع الاحتلال، وما يحمله هذا الاتصال من دلالات سياسية مهمة.
رابعاً، إعلان اردوغان أن عملية المصالحة وتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال لن تتم في ظل استمرار العدوان والظلم.
خامساً، إصدار رئاسة الوزراء تعليمات واضحة لمختلف المؤسسات الحكومية التركية ببدء حملة مساعدات وإغاثة للقطاع.
سادساً، حالة شعبية غاضبة تمثلت في عدة مظاهرات وووقفات احتجاجية في مختلف الميادين وأمام السفارة والقنصلية الصهيونيتين.
سابعاً، تحرك سريع ولافت لمختلف مؤسسات المجتمع المدني التركية، التي بدأت – إلى جانب دعوتها للمظاهرات ومشاركتها في الاحتجاجات – حملات مساعدة عاجلة إلى القطاع.
ماذا بعد
ورغم هذا النشاط الملحوظ في الشارع التركي ولدى صانع السياسة، والذي يتخطى بمراحل مواقف أغلب الدول العربية، إلا أن الملحوظ أن الموقف التركي ما زال دون المأمول منه، وما يملك الكثير من الأوراق التي يستطيع لعبها.
فهل العوائق التي تم ذكرها وقرب موعد الانتخابات الرئاسية ستحكم السياسة الخارجية التركية تحت هذا السقف تجنباً لإغضاب أحد، أم إن تركيا تتابع الموقف عن كثب وستعمد إلى تصعيد موقفها طبقاً لتطورات الوضع على الأرض، كما باتت سمة مواقفها في العراق وسوريا ومصر مؤخراً؟ هذا ما ستظهره تطورات الأيام القليلة القادمة.