كان مؤتمر قمة منظمة التعاون الإسلامي فرصة لاختبار عدد من الفرضيات، وساحة محتملة لبعض التقاربات أو اللقاءات المفترضة التي قد تذيب بعضاً من الجليد بين بعض العواصم، وأيضاً اختباراً لمدى جدية ونجاعة الوساطات المفترضة بين بعض الدول كثر الحديث عنها قبل القمة.
حتى كتابة هذه السطور لم تكن القمة الإسلامية قد اختتمت أعمالها بعد، وربما يكون في الأمر مجازفة إذن بالكتابة عن هذه السياقات، بيد أن العناوين بدت كاشفة بشكل كبير جداً لما هو مكتوب داخل المظروف أو بين السطور، سيما وأن المعتاد في اجتماعات القمم المماثلة – للجامعة العربية ومنظمة التعاون وغيرها – أنها بروتوكولية، بينما تكون الزبدة في الكلمات الافتتاحية واللقاءات الثنائية خلف الأبواب المغلقة.
ثمة أمران آخران يغريان بالكتابة في الأمر قبل اختتام أعمال القمة. الأول مغادرة عدد لا بأس به من الزعماء ورؤساء الوفود القمة وعودتهم لبلدانهم بعد الجلسة الافتتاحية وهو ما يقلل من فرص حدوث أي متغيرات كبيرة. والثاني تركيز معظم المحللين والمراقبين على هذه الاحتمالات كأهم المخرجات المحتملة للقمة، في ظل انخفاض سقف التوقعات فيما يتعلق بالقضايا الرئيسة، المستجدة منها والمزمنة.
وعليه، فإنه بات من حكم المؤكد أنه لا مصالحة سعودية – إيرانية بوساطة تركية ولا حتى لقاء، ولا مصالحة تركية – مصرية بوساطة سعودية ولا حتى لقاء. لكن، هل هذا كل شيء؟ وهل غابت الوساطات أم غابت نتائجها فقط؟
شخصياً، أزعم أننا رأينا جانباً واحداً من الصورة وليس الصورة الكاملة، خصوصاً فيما يتعلق بحرب داحس والغبراء بين مصر وتركيا، إذ في الأمر تفاصيل غابت بفعل الأضواء الكاشفة للمشهد المسرحي الذي أداه وزير الخارجية المصري سامح شكري.
فقد تجنب الرجل ذكر تركيا (إلا مرة واحدة حين ذكر لجنة المتابعة)، كما جرت العادة بروتوكولياً، كدولة مستضيفة ورئيسة دورية للقمة، فلم يشكرها على الاستضافة ولم يتمن لها النجاح، بل حتى لم يذكر أي صيغة بروتوكولية رسمية توحي بأنه “يسلمها” الرئاسة الدورية للقمة، فضلاً عن أنه غادر مقعده سريعاً تجنباً للقاء اردوغان وجهاً لوجه أو مصافحته.
المشهد المتمم لما فعله شكري كان ذكر الرئيس اردوغان صيغة “الرئيسة السابقة” للقمة وتجنب ذكر مصر في كلمته، بعد أن رصدت الكاميرات أحاديثه وهمساته مع وزير خارجيته ومستشاريه فيما اعتبر نقاشاً حول “الرد التركي” المطلوب على التصرف المصري غير اللائق، والذي يبدو أنه انتهى إلى خيار “التجاهل” لا “الرد”.
وفق هذا الذي رأيناه، وكررته شاشات القنوات التلفزية، فالجو كان محتقناً جداً بين الطرفين، ولا يبدو أنه كان هناك وساطة أو حديث سعودي لتقريب وجهات النظر، بل كان ثمة “مواجهة” حامية الوطيس. لكنني لا أعتقد أن هذه السردية دقيقة بحرفيتها.!!
إن سيناريو المواجهة كان يجب أن يتضمن بالضرورة رداً تركيا ما، وإن كان قليل الحدة حرصاً على نجاح المؤتمر الذي تستضيفه تركيا وتريد له أن يمر بسلاسة بطبيعة الحال. إن اردوغان الذي اعتبر “الطائفية” أكبر مشكلة يعاني منها العالم الإسلامي وتنبغي مواجهتها في غمز من قناة إيران وتعريض بها – إضافة إلى رفض الاحتقان الطائفي من ناحية مبدئية – كان قادراً على التلميح ولو من بعيد إلى مصر أو السيسي أو حتى فكرة الانقلاب العسكري، لكنه لم يفعل. أكثر من ذلك، فقد عدد الرجل مشاكل العالم الإسلامي من وجهة نظره، لكنه لم يذكر – صراحة – من بينها الانقلاب على إرادة الشعوب أو الرؤساء غير المنتخبين أو ما شابه، وهذا لم يكن ليحدث مصادفة.
أعتقد أن هذه القمة كانت منذ البداية قمة المملكة العربية السعودية بامتياز، من خلال النشاط الدبلوماسي الذي قامت به قبلها، بزيارات إلى مصر وتركيا والإمارات والأردن وغيرها، وبالهالة الكبيرة من الحفاوة والاهتمام بزيارة الملك سلمان إلى تركيا وتواجده في القمة، وبالكلمة الاستثنائية التي أعطيت له وكسرت البروتوكول في افتتاحيات القمم (فدولته ليست الرئيس السابق ولا الحالي للقمة)، ويمكن أن نضيف إلى ذلك جزءاً من حديث سامح شكري والرئيس اردوغان (ومن ضمن الثانية تعريضه بإيران وإن لم يذكرها صراحة).
لقد تجنب الرجلان ذكر بعضهما البعض، نعم، لكنهما أيضاً لم يتعرضا لبعضهما البعض أو لبلدي بعضهما الآخر، وهذه ملحوظة غابت عن الرؤية والتحليل بفعل الحركة المسرحية التي قام بها شكري كما سبق وأسلفت.
إذن، ورغم كل شيء، فقد حضر وزير الخارجية المصري إلى إسطنبول وشارك في القمة في حين كان يمكن ألا يحضر، وجلس إلى جوار وزير الخارجية التركية مولود تشاووش أوغلو والتقط لهما الصور، وتلى كلمة “الرئيس السيسي” في افتتاح القمة، وعاد إلى مقعده دون أي احتكاك سلبي مع أي مسؤول تركي، في مقابل أن كلمة اردوغان لم تتضمن أي تهجم على مصر أو السيسي أو على ما فعله الوزير المصري، وهذا تفصيل له دلالاته لمن يتابع كل خطابات الرئيس التركي منذ الانقلاب في مصر.
نعم، لقد ظهر الرئيس التركي مرة أخرى كرجل دولة يعرف كيف يرأس القمة ويديرها دون أي أحداث تشغب على سير أعمالها وصورة نجاحها، واختار كلمات خطابه بعناية لئلا يزعج أياً من الدول الحاضرة بشكل مباشر، لكنني لا أستطيع إبعاد فرضية “الوساطة” السعودية لتمرير الأمر بهذا الحد من الهدوء والانسيابية، ومن الطرفين. إذ من الصعب تخيل أن مشهد التسلم والتسليم – الذي لم يكن فيه تسلم وتسليم – كان عفوياً أو غير محسوب تماماً، وأنه ترك للمصادفات وللارتجال الذي يحمل مخاطر كبيرة. إن “التجاهل” وتجنب اللقاء من الطرفين بحد ذاته يبدو وكأنه سيناريو متفق عليه أرضى الطرفين حين لم يكن التوافق ممكناً.
ربما – أقول ربما – كانت التقييمات الآنية على الحدث متسرعة نوعاً ما حين اعتبرت أن الأزمة بين الطرفين عميقة جداً يستحيل معها التقارب حتى في المستقبل، وربما كانت الظروف الموضوعية لأي نوع ومستوى من اللقاء لم تنضج بعد (وإن كنا لا نملك نفي احتمال حصول لقاء ثنائي بين وزيري خارجية البلدين!!)، لكن هذا “الأداء” من الطرفين يعني أنهما استمعا ربما للنصيحة السعودية أو “اتفقا” على هذا الحد الأدنى من التواصل في القمة، وهذا يعني أن فرص التقارب المستقبلي ليست منعدمة تماماً، وإن كانت ما زالت في مستوى متدن بطبيعة الحال.