بعد أقل من خمس سنوات على بداية الموجة الأولى من ثورات ما اصطلح على تسميته بالربيع العربي، تبدو المنطقة على شفا حروب أهلية داخلية وبينية، على أسس عرقية وطائفية ومذهبية، تذهب بها إلى المجهول والدمار الشامل. وبعيداً عن التعمق الآن في أسباب ذلك من ثورات مضادة وتدخلات خارجية وأخطاء ثورية وضعف في الوعي وإدارة الصراع، وغيرها من أسباب كثيرة تناولناها في مقالات سابقة، نحتاج اليوم إلى تلمس طريق قد يمكننا من تجنب هذه الطريق التي لا خط رجعة فيها.
ودون الدخول في جدلية التاريخ وتكراره لنفسه، يؤمن كاتب هذه السطور بأن الأحداث التاريخية الكبرى تسير وفق نواميس وقوانين اجتماعية وتاريخية واضحة، ليست قابلة للتكرار الحرفي، لكن الاستفادة منها واجبة في إطارها العام المتكرر والمتحقق غالباً.
وفي هذا السياق يجدر بنا النظر إلى الغرب، والدول الأوروبية تحديداً التي خاضت حروباً أهلية ودينية طويلة ودامية فعلاً، ولم تكن فقط على شفاها. فكيف تخطت أوروبا تلك المرحلة وصولاً إلى لحظة الاتحاد الأوروبي الحالية؟
بعد حرب الثلاثين عاماً في الإمبراطورية الرومانية المقدسة وحرب الثمانين عاماً بين مملكة الأراضي المننخفضة المقدسة وإسبانيا، وقعت الدول الأوروبية المختلفة عام 1648 اتفاقية “ويستفاليا”، التي اتخذها المؤرخون كنقطة بداية لنظام سياسي أوروبي معاصر مرتكز على فكرة الدولة الحديثة و”سيادتها”. رسمت هذه الاتفاقية الحدود بين الدول المختلفة وأنتجت اعترافاً بالدول والإمارات المستقلة حديثاً وسيادتها على أراضيها، على أرضية اعتراف الجميع بوجود الجميع، وقناعة الكل أن أحداً لا يمكنه إلغاء أو إفناء الآخر.
لكن ذلك لم يلغ التنافس بين الدول الكبرى تحديداً على النفوذ والموارد في أوروبا ما بعد الثورة الصناعية، وأدى هذا التنافس المحموم إلى حربين عالميتين دفعت أوروبا معظم فاتورتهما، ممثلة بعشرات الملايين من الضحايا ودمار المدن وتدهور الاقتصادات. فيما بعد هذيهن الحربين وصلت أوروبا إلى قناعة مفادها التعاون والتنسيق بين الدول الأوروبية المختلفة، في مواجهة “الآخر”، الذي أصبح ساحة للنفوذ والاستعمار الغربي، فنقلت أوروبا بذلك الحرب من أراضيها إلى أراضي الغير، وأعادت تعريف منظومة علاقاتها بدول الجوار الأوروبي، وغيرها من دول العالم.
واليوم، تبدو المنطقة العربية والغة في فوضى العنف والقتل والدماء، وقابلة للاشتعال على أسس طائفية ودينية ومذهبية وعرقية، شديدة الشبه بأوروبا ما قبل “ويستفاليا”. ذلك أن إعطاء الدول المختلفة الصراعَ السياسي والاقتصادي بُعداً أيديولوجياً استدراراً للتعاطف والتأييد، وشدة الظلم الواقع على شعوب المنطقة وخاصة من قبل محور محدد، وطبيعة الشعوب العاطفية، والتدخلات الإقليمية والخارجية التي تنفخ في هذا الرماد، كل ذلك أذكى الروح المذهبية في المشرق العربي وأقنع الكثيرين بدخول الحرب والصراع على أسس دينية ومذهبية، أو على الأقل على توصيف الحاصل بهذا الشكل.
الغريب في الأمر أن الحاصل يتناقض مع ما ذهب إليه معظم المفكرين والمخططين الاستراتيجيين في العالم حول أسباب الصراعات المسستقبلية المتوقعة في القرن الواحد والعشرين، وفي مقدمتهم صمويل هنتنغتون، الذي رأى في كتابه الأشهر “صدام الحضارات” أن الحروب في فترة ما بعد الحرب الباردة سوف تشتعل على “خطوط الفصل الحضاري والثقافي”، أي في المناطق التي تتجاور – أو تتواجه – فيها الأديان والحضارات المختلفة، في ظل تكتلات محلية وإقليمية ودولية على أسس الدين والعرق والحضارة. والحال كذلك، يبدو مستهجناً أن لا تكون الدول العربية والإسلامية، التي تتشارك الدين واللغة والتاريخ والجغرافيا والثقافة والعِرق (باستتثناءات بسيطة) وِحدة واحدة في مواجهة أعدائها الخارجيين الواضحين، وتنحى إلى الحروب الداخلية والبينية.
من جهة أخرى، لا يبدو أن المفكرين الاستراتيجيين في العالم العربي (في حال وجودهم) قادرون على التأثير في القيادات السياسية لتوعيتها بخطورة إثارة القلاقل والحروب والصراعات في الدول المجاورة والشقيقة، وأن أي دولة لا يمكن لها أن تنعم بالأمن والاستقرار والتنمية حال وجودها في محيط مضطرب، وأن النار التي تشتعل في دولة ما ستصل عاجلاً أم آجلاً إلى الدول المجاورة والقريبة لتحرقها، كما قرر أحمد داود أوغلو في كتابه البديع “العمق الاستراتيجي”.
يجب على شعوب هذه المنطقة أن تعرف أن الحروب الدينية لا تنتهي، إذ هي حروب صفرية تستهدف إنهاء الآخر وإفناءه، وهو أمر غير ممكن ولا وارد، لا منطقاً ولا سياسة ولا تاريخاً. بل غاية ما تستجلبه الحروب الدينية والطائفية هو التدخل الأجنبي، والدمار والمجازر وخسارة جميع الأطراف، فهي صراعات لا رابح فيها ولا نهاية لها.
ينبغي لنا أن ندرك أن المقولات والشعارات الطائفية والمذهبية تفيد من أطلقوها، لأنهم يتوسلون من خلالها إثارة الحمية والشعور بالخوف في آنٍ معاً، ضماناً لاستمرار الدعم وعدم تراجع العامة والبسطاء. إنها حرب وقودها الناس، لكنها لا تشبع ولا تنطفئ، إلا حين تخرج القرارات والمواقف من العقول الواعية قبل القلوب العاطفية.
نعم، لقد آن لنا – نحن شعوب المنطقة – أن ندرك أن قدرنا هو العيش المشترك في هذه المنطقة دون إلغاء أو إفناء أو تهميش، وأن طريق نجاتنا هو النظر إلى التنوع العرقي والديني والمذهبي في المنطقة كعامل تكامل لا سبباً في التشتت، وتحويل هذه الفسيفساء إلى طاقة تبني ولا تهدم، بعيداً عن الضغوط والتدخلات والدسائس والفتن والعمل ضد طموحات وتطلعات ومصالح الشعوب.
ليست هذه دعوة عاطفية أو شروداً ذهنياً حالماً، ولا هو تصور رومانسي يتناسى كل التطورات التراجيدية الحاصلة في المنطقة، ولا هي دعوة إلى التصالح مع الطغاة والقتلة ومجرمي الحرب وترك الدفاع عن النفس. وإنما هي مقاربة تدرك صعوبة هذا الطرح وكثرة العراقيل أمامه، لكنها لا ترى على المدى البعيد إلا هذا الحل، حين تقتنع به مختلف الأطراف، فتبدأ بتهيئة الظروف الأولية له والمساعدة على تطبيقه.
لقد دفعت أوروبا أثماناً باهظة من أرواح أبنائها، وعشرات السنين من عمرها، وآلاف مليارات الدولارات ربما من الخسائر الاقتصادية، ويوجد بالتأكيد في وجدان شعب كل منها جراح لا يمكن لها أن تندمل بسهولة، لكنها وصلت إلى نتيجة مفادها أن الأحقاد والصراعات لا تبني مستقبلاً مستقراً. واليوم، ونحن مدعوون إلى الاستفادة من هذه التجربة، لا يجب علينا السير وراءهم خطوة خطوة، ولا يجدر بنا أن نفيء إلى العقل ولحظة الحقيقة بعد أن ندفع نفس ما دفعوا من أثمان، إذ “العاقل من اتعظ بغيره” كما يقولون.
إن منطقتنا اليوم قد تكون أمام الفرصة الأخيرة، للاختيار بين حروب داخلية وأهلية لا تبقي ولا تذر، وبين أن تعمل لمستقبل جميع شعوب ودول هذه المنطقة على أسس من الحق والعدل واحترام الآخر وحقه في الاختيار، في ظلال اتفاقية “وستفاليا” مشرقية، أو “إيستفاليا” هذه المرة، مستمدة من روح وثقافة وظروف هذه المنطقة وشعوبها.