بعد أشهر من المداولات بين أطياف المعارضة المختلفة، فجر رئيس حزب الشعب الجمهوري مفاجأة من العيار الثقيل، حين قدم الأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي أكمل الدين إحسان أوغلو كمرشح مشترك للمعارضة التركية في الانتخابات الرئاسية المقبلة. وتكمن المفاجأة في عدد من التفاصيل المتعلقة بالرجل وتاريخه وتوجهاته، إضافة إلى إمكانية اجتماع المعارضة بكل أطيافها خلفه، بما قد يغير من مشهد الانتخابات الرئاسية، وقبلها قرار الحزب الحاكم بخصوص مرشحه لها.
المرشح التوافقي ورحلة البحث
ذلك أن إعلان اردوغان نيته الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة قد أوقع المعارضة في معضلة كبيرة، عمّقها فوز العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية السابقة بفارق مريح عن باقي الأحزاب، وحين أعلن اردوغان أنه “سيستعمل كل صلاحياته” حال انتخابه رئيساً رأت المعارضة أن معركتها أن تجد “أي” مرشح يستطيع منافسة اردوغان ومنعه من الوصول إلى قصر الرئاسة.
هكذا، ولدت فكرة المرشح التوافقي لحزبي المعارضة الرئيسين، حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية، وكان واضحاً أن المطلوب شخصية ذات خلفية إسلامية أو قومية بعيدة عن أطر العدالة والتنمية يمكن أن تحظى بثقة الأحزاب القومية والإسلامية دون أن تثير اعتراضات الكماليين، خصوصاً أن مرشحاً واضح الانتماء لحزب الشعب الجمهوري لن يحصل غالباً إلا على أصوات حزبه.
استمرت المباحثات والحوارات طويلاً وعلى عدة جولات، وفي كل جولة منها تسربت أسماء مرشحة من هذا الحزب أو ذاك، حتى وصل الأمر بحزب الحركة القومية إلى أن يعرض على الرئيس غول نفسه – وهو أحد مؤسسي العدالة والتنمية – الترشح باسم المعارضة، الأمر الذي أثار حملة من التهكم دفعت الرجل إلى نفي تقديمه هذا العرض.
إحسان أوغلو .. دليل الأزمة ومفتاح الحل
نستطيع أن نفهم في هذا السياق كيف يعبر ترشيح المعارضة لإحسان أوغلو عن عجزها الذاتي وقلة حيلتها، حيث لم تستطع أحزاب المعارضة العريقة تقديم مرشح من داخل صفوفها، فكان أن رشح زعيم المعارضة العلماني الكمالي شخصية “إسلامية” وووافقه عليها مبدئياً زعيم الحركة القومية.
وقد يثير تاريخ الرجل البعيد عن السياسة علماً وممارسة، وافتقاده لكاريزما القيادة، وعدم معرفة الشارع التركي به بشكل واف العديد من علامات الاستفهام حول قدرته على الفوز بالرئاسة، بينما قد تكون هذه المواصفات نفسها هي التي شجعت المعارضة على اختياره، باعتبار أنها تريد رئيساً “تقليدياً” منزوع الصلاحيات وبعيداً عن الاستقطاب، وتكون كل مهمته إعطاء بعض التوازن في السلطة التنفيذية في مواجهة الحزب الحاكم.
ذلك أن حسابات المعارضة تقضي بأن يحصل مرشحها التوافقي – الذي أجلت الإعلان عنه كثيراً ربما بشكل متعمد لإحداث المفاجأة وإرباك الحزب الحاكم – إضافة لأصوات القواعد الشعبية للحزبين الرئيسين، على أصوات جماعة “الخدمة” التي يقودها فتح الله كولن وبعض الأحزاب الإسلامية والقومية الصغيرة. فالأولى ما زالت تقود حملة الهجوم على الحكومة ورئيسها، وسترى في السيد أكمل الدين شخصية يمكن إقناع مريديها بانتخابه، بعد أن فشلت في ذلك في الانتخابات البلدية مع مرشح المعارضة العلماني في اسطنبول، كما أن الثانية قد لا تفضل أن ترى اردوغان يتربع على عرش الجمهورية التركية كأول رئيس منتخب من قبل الشعب، في حين أنها لا تستطيع أن تعطي صوتها لمرشح فاقع التوجه العلماني أو اليساري.
بيد أن الأمين العام السابق لمنظمة التعاون الإسلامي لا يبدو بيضة القبان للمعارضة التركية وحدها، بل ربما يكون أستاذ تاريخ العلوم المشبع بالثقافة العربية والمتقن لأربع لغات، كلمة السر لعديد من القوى الخارجية – الإقليمية والدولية – التي تريد إزاحة اردوغان. فالرجل، الذي كان قد رشحه اردوغان نفسه لرئاسة منظمة التعاون الإسلامي عام 2005، لم يكن دائماً متوافقاً مع خط أنقرة السياسي، بل مال أحياناً للموقف المجابه لها، سيما في موقف منظمته من الأحداث في مصر متماهياً مع موقف دول الخليج، الأمر الذي سبب له انتقادات علنية من وزراء في الحكومة التركية.
اردوغان والقرار الصعب
لكل هذه الاعتبارات، بات من المؤكد أن الانتخابات الرئاسية التركية لم تعد محسومة النتائج سلفاً لصالح اردوغان، كما كانت القناعة سائدة حتى الآن، باعتبار أن تخندق أطياف المعارضة خلف المرشح المنافس، الذي يتمتع بخلفية أكاديمية، وتاريخ بعيد عن السياسة والاستقطاب، ومسيرة مهنية محترمة، وسمعة طيبة، سيعني بالتأكيد أن الانتخابات لن تحسم من الجولة الأولى، وربما لا تكون مجرد نزهة للزعيم التركي الذي يقود بلاده بلا منافس قوي منذ أكثر من 12 عاماً.
فإذا ما أضفنا وجود أطياف (لا يمكن التكهن بمدى قوتها) داخل العدالة والتنمية ربما لا تريد اردوغان رئيساً قوياً ومتحكماً بالوزارة، أو لا تريده أن يترك رئاسة الحزب كي لا ينفرط عقد الأخير من دونه، أو لا ترغب باستمرار حالة الاستقطاب السياسية والمجتعية الحالية، سيتبدى لنا أن رئيس الوزراء التركي وحزبه الآن أمام استحقاق تاريخي يتعلق بقرار الترشح، الذي يحتاج أن يبت به في فترة قصيرة لا تتخطى الثالث من شهر تموز/يوليو القادم.
فإما أن يعتبر اردوغان والحزب السيدَ إحسان أوغلو مرشحاً قوياً يحتاج إلى منافس شرس كاردوغان، فيستمر في قرار ترشحه ويقود الحملة الانتخابية بنفسه، وإما أن يريا ضرورة سحب البساط من تحت أرجل المعارضة وعدم التفريط بأصوات الكثير من الإسلاميين والقوميين عبر تقديم مرشح مقبول من الجميع وبعيد نوعاً ما عن حدة الاستقطاب السياسي، وهو الرئيس الحالي عبدالله غول. سيما وأن هذا السيناريو ليس غائباً عن كواليس العدالة والتنمية منذ فترة، بحيث يرشح الحزب غول للرئاسة، ووزير الخارجية الحالي داودأوغلو لرئاسة الحكومة، مع بقاء اردوغان في رئاسة الحزب.
القرار النهائي
لكن كل هذا لا يعني أبداً أن القرار نهائي ونافذ، حيث تعترضه العديد من العقبات، على رأسها الخلفية الإسلامية للبروفيسور أكمل الدين إحسان أوغلو التي أغضبت تيارات واسعة داخل حزب الشعب الجمهوري، تلك التي تجاوزت حدود الاعتراض الصامت داخل أروقته إلى التصريح بتحفظاتها على وسائل الإعلام. تطورات كهذه قد تدفع الحزب المعارض لإعادة حساباته، في ظل أحاديث وتسريبات متكررة عن استياء كوادره ودوائره القيادية من طريقة إدارة رئيسه للأمور، ونيتهم التوجه قريباً لمؤتمر عام للحزب بهدف الإطاحة به.
والأمر كذلك، يبدو أن الباب ما زال مفتوحاً على عدة احتمالات، ربما يكون أحدها استمالة اردوغان للمرشح المنافس عبر منصب حكومي أو حزبي في مقابل انسحابه (وله في ذلك سابقة حين ضم رئيس حزب صوت الشعب نعمان كورتولموش لحزبه وعينه نائباً له)، أو تراجع المعارضة عن تقديم الرجل لاعتبارات حزبية داخلية أو لخلافات بين أطيافها المختلفة.
لكن الثابت الوحيد أن الانتخابات الرئاسية التركية في العاشر من آب/أغسطس القادم ستكون معركة ساخنة جداً، في انتظار نتائجها التي لن تؤثر فقط بالمعادلة السياسية داخل حدود الجمهورية التركية، بل وفي المشهد العام في الشرق الأوسط ككل.