المصالحة الفلسطينية والأسئلة الحقيقية
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
لا ينبغي للرغبة في التفاؤل أن تدفع المرء للحياد عن الموضوعية والأمانة وقول رأيه بصدق، وإلا انقلب التفاؤل إلى وهم وخداع للنفس والآخرين. نعم، ثمة متغير مهم على الساحة الفلسطينية فيما يتعلق بحالة الانقسام السياسي المستمرة منذ 2007، ولكن هل ما تم فعلاً هو المصالحة الفلسطينية المنشودة أم شيء آخر؟ وما هي الأسئلة الحقيقية التي لا يجب أن تغيّبها حالة الاحتفال والاحتفاء بما حصل؟
أولاً وقبل أي شيء ينبغي التوقف عند التوصيف، فما حصل على الحقيقة ليس “مصالحة” فلسطينية ولا حتى اتفاقاً ثنائياً أو “محاصصة” بين الحركتين الأبرز على الساحة الفلسطينية، وإنما كان “تسليماً للسلطة” في القطاع من حماس لفتح/السلطة. ومن الأمانة أن يقال إن ذلك أحد آخر مظاهر انكسار الموجة الأولى من الثورات العربية التي دفعت مختلف الأطراف والقوى المشاركة بها أو الداعمة لها أثماناً متباينة وبدلت مواقفها – تراجعاً – بدرجات متفاوتة.
إن الآمال والآفاق التي فتحت في نهايات 2010 وبدايات 2011 تلقت ضربة قاصمة في الثالث من تموز/يوليو 2013 واستمرت في التفاعل مع عوامل أخرى كثيرة ليكون من نتائجها مآلات/نهايات الثورة في سوريا وتراجع النهضة في تونس وحصار قطر وإعادة تموضع تركيا وحالة الاستعصاء في كل من اليمن وليبيا، وصولاً لآخر تلك القوى التي استمرت على حالها وقوتها رغم الصعاب والحصار: حماس.
لطالما نظرت حماس للمصالحة الوطنية كأحد أهم شروط نجاح المشروع الوطني وتوجيه بوصلة الصراع نحو المحتل بمشاركة كافة القوى الفلسطينية ولو بالحد الأدنى، لكن حصار القطاع والضغط المستمر على الحركة على مختلف الصعد حوّل هذه “المصالحة” إلى شرط لتخفيف هذا الحصار. وبقدر ما كان – وما زال – معيباً أن يُفهّم الفلسطينون ضمناً أن المسؤول عن حصارهم والتضييق عليهم ليس الاحتلال ولا من يغلق المعبر ولا من يمنع العلاج والسفر والعمل وإنما استمرار حماس في إدارة القطاع، إلا أن الأخيرة لم تجد بداً في النهاية من الانحناء للعاصفة، وقد أظهرت حالة من الإصرار على إنجاح المسار رغم كل شيء.
أول الأسئلة الحقيقية إزاء هذا المسار هو إذا ما كان سينتقل من مجرد استلام الحكم والسيطرة على غزة إلى مسار حقيقي للمصالحة في القطاع، بما فيه ذلك مشكلة الموظفين وكسر الحصار وتأمين الضروريات من كهرباء وغيرها، وهو ما بدا أن رئيس السلطة والحكومة “غير مستعجلين” إزاءها. صحيح أن الموضوعية تفرض علينا عدم توقع معجزات أو قفزات سريعة في ظل المعطيات الصعبة، لكن الأمر منوط أولاً وأخيراً بالإرادة السياسية.
يتكامل مع هذا سؤال آخر حول مدى شمول عملية “المصالحة” الحالية للضفة المحتلة، التي تشهد منذ سنوات عملية حظر وملاحقة و”تجفيف منابع” وتضييق على الأفراد وغلق للمؤسسات القريبة من حماس بل ومعظم الفصائل الأخرى، وإجابة هذا السؤال كفيلة بتوضيح جزء مهم من المشهد.
من أهم الأسئلة الحقيقية على هامش ما حصل هو مدى ارتباطه بمشروع سياسي ما، ما نفضّل أن نطلق عليه اسم المشروع الوطني الفلسطيني. إذ كل ما يحصل حتى الآن وفي المدى المنظور إجراءات وتفاصيل تتعلق بالسلطة والحكومة وإدارة غزة (وربما الضفة)، لكن طالما لم ينتقل الأمر لنقاش المشروع الوطني والقضية الفلسطينية ومواجهة الاحتلال وبتركيز خاص على القدس واللاجئين وفلسطينيي الشتات، فسيكون كل ما تم – على أهميته – مجرد مرحلة تهدئة لن يلبث أن تعود بعدها المواجهة بسبب تضارب الأهداف وتناقض البرامج.
ولعل من أهم الأسئلة التي تفرض نفسها هو سبب نجاح العملية الحالية وسرعتها وانسيابيتها بالمقارنة مع الجولات السابقة الكثيرة رغم أن شيئاً مهماً من المعطيات لم يتغير، فحماس تعلن منذ سنوات رغبتها في تسليم الوزارات وإدارة القطاع وتدعو لانتخابات رئاسة السلطة والمجلس التشريعي والمجلس الوطني، وتعرض منذ فترة إلغاء اللجنة الإدارية للقطاع. وإن من مقتضيات المصارحة والمكاشفة القول إن السبب هو الرغبة الإقليمية والدولية و”الإسرائيلية” اليوم، الأمر الذي عبر عنه القيادي في حماس موسى أبو مرزوق بالقول إن “الفيتو الأمريكي على المصالحة قد رفع”. وعليه، ينبغي أن تسأل كافة الأطراف وخصوصاً حماس نفسها: لماذا رفع الفيتو (إن كان رفع) الآن؟ وما الهدف؟ وما الثمن؟
لا أحب كثيراً أن أشير لما بات يصطلح عليها “صفقة القرن” إذ أعتقد أنها مجرد أفكار عامة لا ترقى لأن تكون رؤية أو خطة أو صفقة، لكن في نهاية المطاف لا يغيب على متابع السعي الصهيوني والأمريكي لتصفية القضية الفلسطينية وفرض التطبيع العربي – الصهيوني، وبالتالي كان من متطلبات ذلك إخراج حماس من المعادلة السياسية وإضعافها واستثمار الأزمة التي تعاني منها مؤخراً، ولكن هل هناك أكثر من هذا؟ وكما أننا لا يجب أن نرفض “المصالحة” بسبب خطط الآخرين، إلا أن رغبتنا في مصالحة فلسطينية حقيقية لا يجب أن تنسينا أيضاً حساب السياق والمآلات.
السؤال الأبرز يتعلق بسلاح حماس والمقاومة الفلسطينية، إذ لا يتصور عاقل أن السيد محمود عباس (وداعموه عربياً وإقليمياً ودولياً) قد تغير بين ليلة وضحاها ويريد شراكة كاملة مع حماس لإدارة مشروع وطني، وإنما هي رغبة بتطويع حماس وإخضاعها لما يريده هو تحت سقف أوسلو، ولستُ متجنياً على الرجل فقد قال هذا ضمناً وعلناً في لقائه مع الإعلام المصري بعد تسلم الحكومة الوزارات في القطاع.
ومن نافلة القول أن حديث عباس عن “توحيد السلاح” في يد السلطة في غزة كما يحصل في الضفة، ورغم ما رشح عن اعتراضات مصرية وتأكيدات حمساوية أن الأمر غير مطروح، يعني أن فكرة “المصالحة الوطنية الفلسطينية” على أسس شراكة كاملة وإدارة الصراع مع الاحتلال مجرد وهم في ظل الإرادة الحالية ويعني أيضاً أن ما نراه الآن مجرد مرحلة ستتبعها مراحل أخرى سيكون عنوانها نزع سلاح المقاومة، وهو ما يفترض وعياً وإعداداً واستعداداً لذلك.
أخيراً، ثمة سؤال مهم ولعله الأهم بالنسبة لحماس يتعلق بما تريده الحركة مستقبلاً بعد التخفف من أعباء “حكم” غزة. لطالما ثار الجدل حول مشاركة الحركة في انتخابات 2006 تحت سقف أوسلو، إذ رأى الكثيرون أنها حمت مشروع المقاومة ومنعت اجتثاثها وفتحت لها آفاقاً في العلاقات الدولية، وهم محقون. ورأى آخرون أنها أنتجت أزمة لحماس من خلال محاولة الجمع بين المقاومة والحكم، وقيّدت العمل المقاوم بمتطلبات الحكم وتوفير العيش الكريم للفلسطينيين، وهم أيضاً محقون.
وبغض النظر عن أي الكفتين أرجح، إلا أن الحركة قد استنفذت معظم مكاسب هذا المسار وبات العبء عليها كبيراً جداً ولا أبالغ إن قلت أنه يهدد كامل مشروعها المقاوم ومصير القضية الفلسطينية، والآن تلوح لها فرصة من خلال تنازلها عن حكم غزة رغم ما فيه من معاني التنازل والتراجع والانحناء للعاصفة كما أسلفت، سيما وأن جميع الأطراف تدرك أن نجاحها في 2006 كان “خطأ” لا يريدون تكرارها.
وعليه، تحتاج حماس لمراجعة دقيقة وعميقة لمسارها خلال السنوات الـ 11 الأخيرة، لتقرر في مسارها المستقبلي، بما يعزز من قدراتها المقاومة ويخفف من الضغوط عليها ويخرجها من عباءة أوسلو التي لن تناسب يوماً جسدها المقاوم. لا أقول إن على حماس التنكر للانتخابات أو الخروج من النظام السياسي الفلسطيني تماماً، ولكن ثمة فارق كبير بين المشاركة في القرار السياسي من خلال منظمة التحرير (مثلاً) وتمثيل الكل الفلسطيني وبين الانكفاء على الضفة والقطاع تحت سقف أوسلو.
إن مجمل المشروع السياسي الفلسطيني بعد 24 سنة من فشل أوسلو ونتائجه الكارثية على القضة الفلسطينية يحتاج إلى مراجعة وتصويب، والعبء الأكبر في هذا يقع على عاتق حماس بلا شك دون إغفال دور باقي الفصائل والتيارات والمؤسسات والشخصيات الفلسطينية في الداخل والشتات والأراضي المحتلة عام 1948، ولن تستطيع حماس أن تبقى رافعة للقضية الفلسيطية إذا ما غرقت في مشاكلها الذاتية أو ضيعت البوصلة لهذا السبب أو ذاك.