“المصالحة الفلسطينية”: حقائق تغيّبها التطورات

 

“المصالحة الفلسطينية”: حقائق تغيّبها التطورات

 

عربي 21

شكلت مخرجات اجتماع القاهرة الأخير بين الفصائل الفلسطينية صدمة للكثيرين، من باب أنها لم تقدم شيئاً ملموساً أو إيجابياً، إن كان على صعيد خطوات ملزمة ومجدولة زمنياً في سياق “المصالحة” أو على صعيد رفع “العقوبات” على قطاع غزة، إذ كان البيان الختامي أقرب لدعوات ورغبات النشطاء والمراقبين منه إلى قرارات الساسة والمسؤولين.

ولئن كانت النتائج متوقعة إلى حد بعيد وفق المعطيات والمؤشرات السائدة قبل الاجتماع وخلاله، على الأقل على مستوى الحاجة لمساحة زمنية أطول لتبلور مسار حقيقي للمصالحة في حال توفرت الإرادة التي تبدو غائبة تماماً لدى وفد السلطة الفلسطينية، إلا أن الأهم من كل ذلك أن هناك حقائق مرتبطة بالقضية الفلسطينية ووضع السلطة والنظام السياسي الفلسطيني بشكل عام يراد لها أن تغيب أو تُغيّب في جلبة اللقاءات والتصريحات لتفرض واقعاً مختلفاً.

أولاً، ثمة حديث ممجوج عن “الشرعية” الفلسطينية التي تريد السلطة/فتح إعادة حماس لها، وتريد إعادة تجديد شرعيتها وتبرئة صفحتها (وصفحة أوسلو والمفاوضات) من خلال صك براءة تقدمه لها عملية “المصالحة” الدائرة. في ذلك قفز مقصود عن حقيقة انتهاء شرعية كافة المؤسسات الفلسطينية من رئاسة السلطة إلى المجلس التشريعي، فضلاً عن مؤسسات منظمة التحرير المترهلة والهرمة وغير الممثلة للشعب، أي مجمل النظام السياسي الفلسطيني الذي يفترض لعملية المصالحة – إن تمت كما يجب – أن تعيد صياغته وتقويته وتطويره.

إن تصوير حماس كحركة آبقة أو منقلبة تعود اليوم لحضن الشرعية الرسمية الفلسطينية يجانب الحقيقة، فهي ما زالت قوة سياسية معتبرة في الشارع الفلسطيني، وهي من فازت بغالبية الأصوات في آخر انتخابات جرت في أراضي السلطة، وهي تنازلت وتتنازل طواعية عن حقها في تشكيل الحكومة (لأسباب تناولناها في مقالات سابقة) لمحاولة رأب الصدع في المشهد الداخلي الفلسطيني، وهي التي تعرضت لعملية انقلاب قادها محمد دحلان وفق اعترافات حركة فتح نفسها.

المشكلة أنه في مشهد الشرعيات المتآكلة أمامنا يبدو الأقل شرعية وهو محمود عباس – باعتباره فرداً وباعتباره أول المنتهية صلاحية منصبهم دون تجديد المجلس التشريعي له – متحكماً في باقي المؤسسات والشرعيات وفي مقدمتها المجلس التشريعي الفلسطيني، الذي يفترض أن يبقى يعمل لحين تشكيل المجلس الآتي عبر بوابة الانتخابات القادمة.

ثانياً، ويتبع ذلك ويتعلق به الحديث عن “حكومة التوافق” الوطني التي يقودها د. رامي الحمد الله، والتي تشير تركيبتها وعدم حصولها على ثقة التشريعي كما يفترض وكما تم الاتفاق ثم التغييرات التي أجريت عليها إلى أنها أبعد ما تكون عن هذه التسمية، والأصوب أنها حكومة الرئيس عباس ابتداءً ونهاية وقراراً وسياسات.

ثالثاً، تحاول حركة فتح/السلطة تحويل المسار الحالي إلى سقف جديد ومستقل لعملية التفاوض والمصالحة، بينما كان يفترض – والمتفق عليه – أن تخصص لقاءات القاهرة لوضع جدول زمني وعملي لتطبيق الاتفاقات السابقة بين الطرفين وبين الكل الفلسطيني، في تشابه سيء ومقيت لمسار المفاوضات الفلسطينية – “الإسرائيلية” التي تغير مرجعيتها وسقفها وتتنصل مما اتفق عليه في كل جولة من المفاوضات.

رابعاً، تمثل تصريحات بعض قيادات المنظمة والسلطة وحركة فتح قفزاً معيباً عن الواقع الفلسطيني وسردية حالمة وطوباوية عن الدولة والسيادة ووحدانية السلاح، بحيث يشعر المتابع لوهلة أننا نتكلم عن نيوزلندا أو السويد وليس عن أرض مغتصبة وشعب تحت الاحتلال. إن الحديث عن ضرورة ضبط سلاح المقاومة وجمعه تحت سقف السلطة، التي تنفذ سياسات أمنية أقل ما يمكن أن توصف به أنها متعارضة مع المصلحة الفلسطينية وخادمة لمصالح الاحتلال، يعني أن السلطة/فتح تريد أن تسحب حماس لمربع أوسلو والاعتراف بالكيان الصهيوني ونبذ “العنف”، أي التسليم بشرط الرباعية الدولية التي – وللمفارقة – لم تعد الرباعية نفسها تشترطها على حماس.

إن المطلوب من المصالحة الفلسطينية كان ولا زال توحيد الصف الفلسطيني وحل النزاعات البينية للتركيز على مواجهة الاحتلال، وليس العكس. وكل من يظن أن سوء الأوضاع الإقليمية والدولية والأزمة التي تمر بها حركات المقاومة وفي مقدمتها حماس والجهاد يعني أن ثمة فرصة سانحة لتجريم المقاومة وتحييد و/أو نزع سلاحها واهم وجاهل بتاريخ الشعب الفلسطيني ومعدنه الأصيل الذي قد يئن من الحصار والألم لكنه لا يساوم على حقوقه وثوابت قضيته ولا على سلاح مقاومته.

خامساً، تستغل السلطة/فتح مسار المصالحة والتصريحات المتفائلة والوردية التي سبقته ورافقته لتضع نفسها على كف المساواة مع حماس (وباقي الفصائل) في المسؤولية عن الانقسام والخروج منه على حد سواء. وهذه أيضاً مغالطة يُعمل على فرضها بالأمر الواقع ولي الأذرع، إذ أن حماس وبشهادة الجميع بما فيهم قيادات من فتح والسلطة قد أبدت مرونة كبيرة وخاضت خطوات تسليم الحكم في غزة “على أكمل وجه” وفق كلام عضو اللجنة المركزية لفتح د. محمد اشتية مؤخراً وبما أغضب أحياناً كوادرها وحاضنتها الشعبية. بينما تحيل معظم قرارات اتفاق القاهرة والاتفاقات السابقة والمحادثات الحالية إلى خطوات مطلوبة من طرف السلطة/فتح إن كان على مستوى الرئاسة أو الحكومة، وهو ما لم يتم حتى الآن، فضلاً عن العقوبات المستمرة على قطاع غزة كورقة ضغط على حماس في موقف مستغرب ومشين.

إن المسؤولية الأخلاقية تحتم على مختلف الأطراف، من فصائل وتيارات وهيئات وأشخاص، متابعة ومراقبة عملية الحوار و”المصالحة” وتحديد مسؤولية التأخير والتعطيل والبطء بشكل دقيق بعيداً عن المجاملات الدبلوماسية ومحاولات اللعب على وتر الحياد أو استغلال المسار لاكتساب شرعية أو إثبات صوابية رأي.

مرة أخرى، المصالحة الوطنية الحقيقية مصلحة لنا جميعاً وندرك أنها طريق صعبة وقد تكون طويلة نوعاً ما، لكن الأمر يحتاج إلى إرادة وشفافية وصراحة ومسؤولية من الاطراف ذات العلاقة، ومتابعة ورقابة ونقداً وتصويباً منا نحن الشعب الفلسطيني ومجاميع المراقبين والمتابعين، أملاً في أن تصل المصالحة فعلاً إلى محطتها الأخيرة المرجوة: توحيد الصف الفلسطيني في مواجهة مشروع الاحتلال الصهيوني، أو وضع النقاط على الحروف وتحديد من لا يريد و/أو لا يقدر على ذلك ولم.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

بوصلة الصراع في المنطقة

المقالة التالية

ندوة: العلاقات العربية - الإقليمية: الواقع والآفاق - عمان - ديسمبر 2017

المنشورات ذات الصلة