ثمة فارق كبير جداً بين حال الثورة السورية في بداياتها الأولى وبين حالها اليوم، وهو فارق جوهري يجب وضعه نصب الأعين بين يدي أي تقييم حقيقي للواقع أو تخطيط جدي للمستقبل.
فقد بدأت الثورة على شكل احتجاجات شعبية واسعة على نظام ظالم وباطش وفاشل حتى أمام أسئلة الاقتصاد والتنمية والعمل الحكومي. بيد أنها تطورت بشكل سريع – ومفتعل جزئياً – من حركة سلمية إلى ثورة مسلحة، ثم إلى ما يشبه الحرب الأهلية، ثم إلى نزاع إقليمي بأيد محلية، ثم أخيراً إلى صراع دولي بنكهة إقليمية. صحيح أن كل هذا الكلام لا يلغي مشروعية الثورة ولا ينفي مظلومية الشعب السوري ولا إجرام النظام، لكنها متغيرات تؤثر بشكل مباشر وعميق في آليات إنهاء الصراع ولا شك.
إن مرحلة التعقيد الشديد التي وصلتها الأزمة السورية تفرض على الجميع الوقوف بصدق وشفافية أمام متطلبات المرحلة، ولعل من أهم متطلباتها القيام بمراجعات عميقة وحقيقية وصادقة حول مجمل قناعات ومواقف وقرارات المرحلة السابقة. ولأن النظام لا يعنينا في شيء ولا نظن أنه يملك زمام قراره، فسوف أسرد هنا بعض السياقات التي تحتاج المعارضة السورية – السياسية والمسلحة على حد سواء – للقيام بمراجعات ضرورية وعاجلة وعميقة إزاءها، للوقوف على الأخطاء المرتكبة وتحمل مسؤولية ما هي مسؤولة عنه من تداعيات وتصويب ما أمكن تصويبه من مسارات خاطئة. ولعلي أركز هنا على ما أعتبره “استراتيجياً” منها، مثل:
- الرهان على الخارج منذ بدايات الثورة، ولعلي لا أبالغ إن قلت “ارتهان” البعض أيضاً لهذا الخارج وانتظار الحل والسند والدعم منه، على اختلاف مرجعية وأهداف وسقف ومواقف هذا “الخارج”.
- عدم قراءة المشهد المحلي والإقليمي والدولي بشكل صحيح، بما أدى إلى توصيف خاطئ للتطورات في المشهد السوري ورسم بعض الأحلام والأماني على أنها حقائق وبعض الرهانات الخاطئة على أنها حلول استراتيجية وممكنة.
- الوقوع في فخ التفسير الطائفي والتحشيد المذهبي، والذي لا يمكن أن يشكل رافعة للشعب السوري وقضيته بل على العكس يفيد النظام وإيران التي كانت أول من بدأ باستخدام الورقة الطائفية لضمان ولاء “الشيعة العرب” لها وتحشيدهم في صفها.(لاحظ مثلاً أن روسيا لا تأخذ حقها في الهجوم والتغطية الإعلامية كإيران، بينما يتم التغافل عن منظومة المنتفعين من نظام الأسد من الطوائف غير العلوية)
- حالة التشرذم والتشظي سياسياً وميدانياً والتقاتل البيني في ظل هجمة النظام وروسيا من جهة وتنظيم الدولة – داعش من جهة أخرى، وهي حالة ساهمت فيها الدول الإقليمية إلى حد كبير، لكن المسؤولية الأولى تقع بطبيعة الحال على الفاعل المحلي الذي يملك – أو يفترض أن يملك – قراره والذي قبل الدعم المشروط في السابق ويقبل التوجيه الخاطئ حالياً.
- عسكرة الثورة في ظل التصور الخاطئ لأبعادها وتشابكاتها المحلية والإقليمية والدولية، بما أخرج العامل الشعبي من المعادلة وساهم في دعم رؤية الأسد (الإرهاب) لدى بعض الدوائر ورهن معظم الأوراق للأطراف الداعمة. وأنا هنا أتحدث عن حمل السلاح من زاوية النجاعة والفائدة والمآلات وليس من زاوية المشروعية والحق النظري.
قد يجادل البعض بأن هذه البنود لم تكن أخطاء بل قرارات صحيحة أو في الحد الأدنى خطوات اضطرارية لم تملك الثورة/المعارضة سواها، ولا بأس في ذلك فالنقاش يحتمل هذا وأكثر على قاعدة المصلحة والحرص والبحث عن الحقيقة والتجرد للموضوعية، لكنني أعتقد أنه ينبغي قبولها على الأقل كتحديات ونقاط مفصلية في صياغة مستقبل سوريا، خصوصاً وأن كاتب هذه السطور لا يدعي أن هذه الأخطاء المفترضة هي التي أدت بمفردها إلى الحال المتأزمة للقضية السورية اليوم.
وإذا كانت المراجعات تستهدف رسم خيوط المرحلة القادمة من خلال مراجعة الماضي، فإن المطلب الثاني لهذه المرحلة يرتبط بشكل مباشر وعضوي بمستقبل سوريا، ألا وهو طريقة الحل أو مسار الخروج من الأزمة أو سيناريو انتصار الثورة .. أو غيها من المصطلحات التي لن ندخل في جدلية أسمائها وأشكالها الظاهرة بقدر ما يهمنا مسماها وجوهرها.
ثمة من ينادي بالاستمرار بالقتال أو الثورة حتى آخر نفس وآخر رجل وآخر قطرة دم، وهذه مقاربة مردها لدى الكثيرين إلى مشروعية الثورة ووحشية النظام وإجرامه، ولدى آخرين إلى الغرق في بحر الشعارات والأحلام الوردية، ولدى آخرين إلى رفض/استهجان/تخوين فكرة “التفاوض” أو “الحل السياسي”، ولدى آخرين إلى عدم تجرؤهم على طرح فكرة مغايرة خوفاً من ردة الفعل الشعبية – الثورية، وقد كان هؤلاء برأيي من أكثر من أضر بالثورة السورية منذ بداياتها حين كانوا يزايدون برفع شعارات الشارع في دهاليز السياسة بحثاً عن رصيد ومشروعية بين صفوف الشباب المتحمس في الميادين، بينما كانت الثورة تحتاج إلى قيادات تفكر وتنظــَّر وتقود الشارع.
إن مصطلحات كثيرة – من بينها الحل السياسي أو إنهاء القتال – قد وصمت بمعان سلبية ولم يعد الكثيرون يجرؤون على استخدامها، فيما هي من الناحية النظرية والاستراتيجية ممكنة وأحياناً مطلوبة في الثورات وسلاح مهم في يد حركات التحرر عبر التاريخ وفي الحاضر ومستقبلاً. إن استدامة – بالأحرى إدامة – الصراع حتى اليوم تحت عنوان “التوازن” بين الطرفين والذي تسعى له القوى الخارجية، وعدم قدرة الفصائل الميدانية على إحداث تغيير كبير في موازين القوى، وبالتالي عدم القدرة على الحسم عسكرياً إلا بالرهان على تدخل خارجي لم وربما ين يأتي أوانه، وانتقال القرار من اليد المحلية إلى الإقليمية ثم إلى الدولية، وانفراد الروس والأمريكان برسم مستقبل سوريا وشعبها، كلها عوامل تشير بشكل واضح إلى ضرورة – ولا أقول إمكانية – الوصول لحل ما.
إن هذا الطرح لا يعني تبريء المجرم ولا إبقاءه في سدة السلطة في سوريا، ولا يعني نفي مظلومية الشعب السوري، ولا يعني المساواة بين نظام مجرم لم يتورع عن أي نقيصة ومظلمة وثائر شريف لم يملك الأدوات – مختلف الأدوات – لإزاحته، ولا يعني الدعوة لإلقاء السلاح والاستسلام إذ القوة الميدانية إحدى أهم أدوات العمل السياسي بعد أن وصلت الثورة للمشهد الحالي. إن استمرار القتال على أسس عرقية ومذهبية وطائفية يسير بسوريا نحو حرب أهلية لا نهاية لها وحل سياسي جوهره تقسيم البلاد وضياعها تماماً وليس نحو تحقيق الأهداف التي قام من أجلها الناس. وهذا المعنى تحديداً يضع الكثيرين أمام مسؤولياتهم، وأمام واجب أن لا يصروا على الحلول المثالية إن لم تعد ممكنة، فيما واجب الوقت أن يختاروا أقل الخيارات سوءاً لمنع الأسوأ.
في كتابه “صدام الحضارات”، شرح صمويل هنتنغتون بنية الصراعات على أسس ثقافية وحضارية – ومنها الدينية والعرقية والمذهبية – على ثلاثة مستويات: العناصر المحلية ثم الأطراف الداعمة (عادة دول الجوار) ثم الدول الإقليمية والعالمية، وتحدث في فصل كامل عن كيفية إنهاء هذه الصراعات والتي يمارس فيها “الحليف” الخارجي أحياناً ضغطاً أكبر على حليفه المحلي/الميداني من “العدو” حين يصل إلى قناعة بضرورة توقف القتال، ويكون ذلك عادة بعد صفقة يعقدها “الكبار” فيما بينهم.
هذا المعنى متضمن في ثنايا التطورات الميدانية اليوم في سوريا، التي تحولت إلى ساحة تصطرع فيها القوى الدولية في مساحات التدافع وفرض الشروط بين يدي صياغة نظام دولي جديد وتحديد حدود وتقاطعات النفوذ فيه، بين الغرب الذي يسعى بقيادة الولايات المتحدة إلى ترسيخ سيطرته وقيادته وبين روسيا التي تسعى للعودة إلى كونها “قوة عظمى” وليس “دولة إقليمية كبيرة” أمكن للمعسكر الغربي أن “يتجرأ” ويفرض عليها عقوبات اقتصادية.
لقد ذهبت أوروبا في القرن السابع عشر إلى مصالحات كبرى بعد حربي الثلاثين عاماً والثمانين عاماً التي قضى فيها الملايين عبر صلح ويست فاليا، ويستطيع السوريون – بل ربما ينبغي عليهم – الذهاب إلى حل سياسي تاريخي يضمن بقاء سوريا وشعبها ويخرج قضيتها من كونها ورقة على طاولة مساومات الدول الكبرى.
لو كان ثمة إمكانية لإنهاء الصراع بالقوة أو وجد من يملك رؤية واقعية لذلك لأمكن رمي كل هذا الكلام جانباً، أما وقد اخرجت التطورات المتلاحقة القرار من يد الثائر إلى الداعم ثم إلى اللاعب الدولي، وأخرجت الأول من مساحة اللعب في المساحات الرمادية للاستفادة من العامل الخارجي إلى ورقة في يد الأخيرَيْن، فيجب على المقاربة أن تكون مختلفة مع عدم تغير أي شيء في مساحات المظلومية والمشروعية والحق والإدانة.
إن المحطات التاريخية تحتاج إلى قيادات تاريخية تأخذ زمام المبادرة وتتخذ القرارات الصعبة والضرورية والأقل خطأ، ومسؤولية هذه القيادات أن تقود الجماهير والفصائل والنخب إلى حلول وسط أو مرحلية أو انتقالية في حال تعذرت الحلول المستدامة، بعد أن تقنع هؤلاء جميعاً بجدارتها وأحقيتها في القيادة من حيث الكفاءة والمصداقية والرؤية الاستراتيجية والحرص على المصلحة العامة وسلامة المنهج.
لقد قلتُ يوماً “إن كنتَ ستذهب إلى الحل السياسي بعد مليون شهيد، فالأفضل أن تذهب إليه بعد ألف شهيد فقط”، واليوم أضيفُ “إن كنتَ ستذهب للحل السياسي بضغط من الدول الخارجية، الداعمة والخصمة على حد سواء، فالأفضل والأشرف أن تذهب إليه بقرارك الذاتي” وذلك أدعى إلى تحقيق مصلحة أكبر للشعب والبلاد والقضية والثورة، والله أعلم.