المجلس الوطني السوري والتحديات الجسام

قبل أيام، وفي اسطنبول، أعلن عن قيام “المجلس الوطني السوري” ككيان سياسي جامع لأطياف المعارضة السورية لدعم الحراك الشعبي في الداخل، وكبديل عن النظام السوري في حال (أو بعد) سقوطه.

هذا الإعلان الذي جاء بعد ستة أشهر كاملة من بدء الحراك الشعبي في الشارع السوري، وبعد مبادرات واجتماعات ولقاءات ونقاشات ماراثونية بين أطياف المعارضة المختلفة في الداخل والخارج، أظهر للعيان مدى الصعوبة التي تعانيها المعارضة في سبيل توحيد جهودها وبوصلتها للخروج بكيان سياسي واحد يمثل الحراك والمعارضة في الداخل والخارج. فالمدة الزمنية التي تطلبها هذا الإعلان، وكثرة المبادرات وتنوع مطالبها، وعدم مشاركة الكثير من الأسماء المعارضة المعروفة في المجلس، والإعلان عن نصف الأسماء فقط في اللحظة الراهنة (البيان الصحافي أعلن أن جماعة الإخوان والكتلة الوطنية الكردية سيسميان ممثليهما لاحقاً  !!)، كل تلك إشارات إلى الخلافات الكثيرة التي تردد أنها لم تجد طريقها للحل حتى في الظرف السوري الراهن الذي يستوجب من الجميع أعلى درجات المسؤولية والوعي والتضحية.

الملاحظة الثانية –ربما- التي يمكن للمراقب رؤيتها هي “استماتة” المجلس وأعضائه في الإعلان مراراً وتكراراً بأنه سيعبر عن مطالب شباب الثورة في الداخل، وتكرس ذلك عملياً بتمثيلهم بستين في المئة من أعضاء المجلس، وهي أمور مطلوبة ولا تمثل مثلبة من الناحية النظرية، ولكنها تشير إلى حمى الصراع بين أطياف المعارضة/المبادرات المختلفة لاحتكار تمثيل الثورة وشبابها، وهو أمر يثير سؤالاً كبيراً ومهماً: هل سيكون المجلس مرشداً ومسدداً للحراك السوري الشعبي، ام أنه سيكون مجرد تابع له ومعبر عنه؟؟

في هذه الفترة العصيبة والدقيقة التي تمر بها سوريا، مطلوب من المجلس الوطني السوري المعلن أن يكون على قدر المسؤولية، فليس المنتظر منه أن يكون ناطقاً رسمياً وداعماً إعلامياً للثورة فقط، بل عليه أن يكون مدركاً أنه يطرح نفسه – للداخل والخارج السوري وللقوى الإقليمية والعالمية – بديلاً عن النظام السوري وقائداً للفترة ما بعد سقوطه، بمعنى أن عليه أن يكون على مستوى وقدر قيادة سوريا والحفاظ على دورها العربي والإقليمي، إضافة إلى قيادته لدفة الثورة السورية في المرحلة المقبلة.

انطلاقاً من هذه الرؤية، نرى أن أمام المجلس الوطني السوري المعلن حديثاً مهامَّ جساماً عليه أن يضطلع بها وسريعاً:

أولاً: على المجلس أن يستكمل الإعلان عن أسماء باقي أعضائه في أسرع وقت، لأن أيّ تأخير سيعني فشله في هذا المسعى، حيث يرى الكثير من المراقبين أن الخلافات ليست موجودة فقط بين الأطياف المختلفة بل أيضاً في داخل بعض الكيانات المعارِضة (ثمة تسريبات إعلامية أن الخلافات الداخلية هي ما يؤخر إعلان الإخوان أو الكتلة الكردية عن أسماء ممثليهما).

ثانياً: إقناع وضم أكبر عدد وأوسع تمثيل ممكن من المعارضة السورية في الخارج لتقوية المجلس وزيادة قدرته على تمثيل كل ألوان الشعب السوري المناطقية والسياسية والمذهبية والعمرية. هنا تبرز مجموعة الدكتور برهان غليون المجتمعة في الدوحة ومبادرات وهيئات مختلفة في الداخل والخارج سيكون اجتماعها وتوحدها دفعاً قوياً للحراك الشعبي.

ثالثاً: طمأنة الشارع السوري وحث القطاعات التي ما زالت على الحياد (خاصة في دمشق وحلب) على الانخراط في الثورة السلمية المطالبة بالحرية والكرامة، وتفنيد مخاوفهم من الركود الاقتصادي أو الحرب الطائفية أو الفوضى الداخلية أو الحركات الانتقامية في حال سقوط النظام.

رابعاً: قيادة وترشيد اتجاهات شباب الثورة وليس السير وراءها أينما سارت. فبعض المطالبات التي تصدر في المظاهرات من هنا أوهناك تحتاج للوقوف عندها، حيث أن  مطلقيها (مع كل الاحترام لهم ولتضحياتهم) ليسوا من أصحاب الوعي العالي أو الخبرة السياسية، ويطلقونها غالباً تحت ضغط الأحداث وفظائع الاعتقال والقتل والتعذيب، مما قد يؤثر على صوابية المطالب ووجاهتها، وهنا تبرز أهمية دور المجلس في النقد والتوجيه. فقد سمعنا حديثاً بعض المطالبات ب”حماية المدنيين” في المظاهرات الشعبية تحت وطأة المداهمات العسكرية وارتفاع عدد الشهداء وتجاوزات الأمن والشبيحة، وشاهدنا كيف أغفل “ميثاق العمل الوطني” الذي أعلنه المجلس عمداً الإعلان عن رفض التدخل الخارجي بشكل واضح وصريح، مما يثير المخاوف من أن تستدرج الأحداثُ على الأرض والحرصُ على التماهي مع مطالب شباب الثورة المجلسَ إلى قبول هذا التدخل لاحقاً، بما قد يحمله من مخاطر على الثورة والدولة والدور الإقليمي لسوريا على حد سواء (والمثال الليبي ما زال بارزاً للعيان، ويقرر صراحة أن التدخل العسكري يأتي عندما يدعى ولكنه لا يرحل عندما يطلب منه ذلك، ولا تكون أجندته بالضرورة هي أجندة الثورة أو الشعب !).

خامساً: طمأنة وجذب المؤيدين للنظام السوري الحالي. فلا يخلو من لا يزال يؤيد ويدعم النظام السوري الحالي رغم ما يقوم به من بطش وتنكيل بشعبه من غافل عن الحقائق، أو خائف على مصالحه، أو قاق على مستقبله، وربما يكون على رأسهم وأهمهم المقاومة اللبنانية والداعمون لخط سوريا “الممانع” (بغض النظر عن كونه حقيقياً وأصيلاً أو مصطنعاً كما ترى المعارضة السورية). فقد سمعنا الكثير من التهجم والشتائم على حزب الله اللبناني ولم نسمع حواراً عقلانياً أو تحليلاً عميقاً لموقفه من الثورة، والذي -رغم معارضتنا له- يعبر عن القلق والخوف على مستقبل المقاومة في حال فقد حليفه الحالي أكثر مما يعبر عن نفَس طائفي متحيز (رغم احتمال وجوده). إن ما يجب على المجلس أن يقوم به هو البعد عن ثقافة الشتائم والتخوين، وتوجيه رسائل واضحة للجميع (وعلى رأسهم حزب الله وإيران) أن سوريا المستقبل لن تكون أقل عروبة و”ممانعة” من سوريا النظام الحالي، وأن دورها العربي والإقليمي سيشهد تطوراً لافتاً حين يعبر الشعب عن نفسه ويحكم نفسه بنفسه.

ربما ليس من الحكمة المبالغة في التنظير والمثاليات في ظرف يقتل فيه العشرات ويعتقل المئات يومياً، لكن أملنا أن يدرك أهلنا في سوريا أنهم يرسمون معالم مستقبلهم ويكتبون مصيرهم بحروف الحرية والعزة والكرامة، وأن ذلك أمر جلل تهون في طريقه التضحيات، وأن الكرامة لن تكون يوماً دون ثمن، وأن الغرب لن يكون يوماً حريصاً على الشعب أو الثورة، وأن من أخطر الخطر أن يتخلص الشعب من حاكم طاغية ليغرق نفسه في بحار التبعية السياسية والاقتصادية وربما الاحتلال المباشر من الغرب الذي يستبطن ويظهر الدعم الواضح والدفاع المستميت عن مصالح الكيان الصهيوني الذي لن يريد يوماً سوريا قوية وفاعلة.

إنها مهمة عظيمة ودونها مشقات كبيرة وتضحيات عظيمة، لكننا نثق أن الشعب لا يفقد بوصلته أبداً وأنه قادر على اجتياز الصعاب واجتراح الحلول من رَحِم المستحيل، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

حماس والأزمة السورية .. محاولة للفهم

المقالة التالية

تساؤلات حول خطاب عباس في الأمم المتحدة

المنشورات ذات الصلة