وسط ضجيج التطورات المتسارعة في المنطقة، يحار بعض المراقبين والكثير من الساسة في تفسير بعض المواقف الأمريكية المتضاربة، ما بين اتفاقها الوشيك مع إيران (والمفترض أن يشمل كافة ملفات المنطقة) وما بين إشاراتها التشجيعية لعملية عسكرية في سوريا ضد حليفها الأسد على غرار عاصفة الحزم في اليمن.
هنا، نحتاج إلى الاستعانة بمبدأ تشرشل القديم المتجدد حول المصالح الدائمة في السياسة، بدل الصداقات أو العداوات الدائمة. ولما كانت الجزئيات تـُفسر بناء على الكليات، والثوابت تحكم على المتغيرات، والفروع تـُفهم تبعاً للأصول، بات من الواجب علينا النظر في المصالح الأمريكية الثابتة في المنطقة، وعدم الانخداع ببعض التكتيكات المؤقتة.
لقد حدد الباحث في شؤون الشرق الأوسط لويس فاوست مصالح الولايات المتحدة الرئيسىة في منطقة الشرق الأوسط في فترة الحرب الباردة بالثلاثي الشهير: تأمين عبور النفط وحفظ أمن “إسرائيل” واحتواء التمدد الشيوعي. بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، تبقى من هذا الثلاثي عموداه الأوليان فقط، النفط و”إسرائيل”، أما ما عدا ذلك فمجرد حواشي على هامش النص الأساسي.
هكذا، وهكذا فقط، يمكن فهم الاستراتيجية الأمريكية في سوريا منذ لحظة الثورة الأولى (التي لا علاقة لها بإشعالها)، وهي تحويل سوريا إلى “محرقة” أو “ثقب أسود”، يضرب سرباً كاملاً من العصافير بحجر، فيتم من خلاله إنهاك النظام، والفتك “بالجهاديين”، وتوريط إيران وحزب الله، وإشغال تركيا، وبالتالي تدمير الدولة السورية واستنزاف كل المنطقة. ولذلك فقد كان إسقاط الأسد خطاً أحمر أبلـِغ إلى قيادات المعارضة المجتمعة في تركيا في بدايات الثورة، باعتبار أن سقوطه السريع سيعني خطراً على حدود وأمن “إسرائيل”.
هكذا، وعلى مدى سنوات طويلة، بقيت الولايات المتحدة المتحكم في سيرورة معظم تفاصيل المشهد السوري، حيث حددت هي في غالب الأحيان مفردات وعناوين الدعم المقدم للمعارضة، ولمن يقدم، وأين يستعمل. ومن خلال إذعان حلفائها لتعليماتها، ضمنت واشنطن مثلاً أن لا يمرر للمعارضة السورية أي سلاح رادع لطيران الأسد، فمنعت إسقاطه كما منعت من ناحية أخرى القضاء التام على المعارضة. لاحقاً، أعلن أحد السياسيين الأمريكيين الكبار استراتيجية بلاده بكلمات واضحة، إنها الحفاظ على “التوازن” في سوريا و”عدم التدخل إلى جانب طرف ضد طرف، وهذا ما أسميه إنهاك وإضعاف الكل، أي المحرقة.
لقد راهن كثيرون على الدور الأمريكي في سوريا، ولكن يبدو أنهم تغافلوا عن الدرس العراقي بالغ الأثر والدلالة. بيد أن الدرس العراقي ليس مقتصراً على تدمير البلاد وقتل العباد على مدى سنوات، بل فيه فصل تمهيدي لا ينبغي نسيانه، وهو الضوء الأخضر الذي أعطي لصدام حسين لغزو الكويت ثم اتخاذ ذلك ذريعة لاحتلاله وفرض قواعد لعبة جديدة في الشرق الأوسط ما بعد الحرب الباردة.
هذا الدرس يجب أن يكون حاضراً أيضاً في اليمن، ولكن برؤية أشمل من مجرد الاقتطاعات الجزئية حسب الرغبات والعواطف. إذ لا يمكن تصور التمدد الحوثي – الإيراني على مسافة أمتار من السفارة والقواعد العسكرية الأمريكية دون إذن العم سام، ولكن أيضاً من الصعب تصور عملية عاصفة الحزم دون الضوء الأخضر من واشنطن. إذاً، مع من تقف الولايات المتحدة في عملية عسكرية قد تؤدي إلى حرب إقليمية طاحنة، في أحد طرفيها إيران والدول والكيانات التابعة لها، وفي طرفها الآخر السعودية ودول الخليج وربما تركيا؟
يبدو لي أن الولايات المتحدة لا تقف على أحد طرفي المعادلة ولكن “فوقها”، أي أنها تساعد على نشوب الصراع بغض النظر عن نتائجه، التي يمكن لها أن تتكيف معها كائناً ما كانت. إذ لا يجب أن ننسى أنها لا تتعامل مع المنطقة وقف استراتيجية واحدة جامدة، بل تعينها عناصر القوة والتواصل والعملاء الرسميين وغير الرسميين على اعتماد عدة استراتيجيات تمكنها من التعامل مع أغلب المتغيرات، ولو بعد حين.
إن الغموض الذي يلف الموقف الامريكي ما بين الدعم والتعاون والدعوة إلى الحوار والحل السياسي غموض متعمد ومتكرر في السياسات الأمريكية. ذلك أن ما يعتبره البعض “تردداً” أمريكياً هو موقف مقصود لذاته، إذ يساعد واشنطن على التملص من أي التزامات كما يعينها على تغيير المواقف بسرعة غير متوقعة من النقيض إلى النقيض، دون أن يرف لها جفن أو وعد أو تحالفات.
إذاً، يبدو الصراع الناشب في المنطقة في صالح الولايات المتحدة، فهو – كما كل الصراعات – يستنزف جميع خصومها، ويضاعف من حاجتهم لها، ويشغلهم عن أي صراع آخر (مع دولة الاحتلال مثلاً). وبغض النظر من سيخرج منتصراً منه – وعادة ما يكون الجميع خاسراً في هذا النوع من الحروب – فهي مستعدة للتعاون معه، ولكن يا حبذا لو أدى الصراع إلى تجزئة المجزأ وتقسيم المقسّم في المنطقة أكثر فأكثر على أسس إثنية ومذهبية، وهو الحلم القديم لبرنارد لويس، الذي سخر الكثيرون من خطته وخريطته قبل أن يروا إرهاصاتهما عياناً على الأرض.
ختاماً، لا شك أن البادئ بالظلم يجب أن يردع، ولا ريب أن نزف الدماء يجب أن يتوقف، ولا مناص من رد المعتدي ودفع الأخطار، لكن لا يجب أن ننسى أن الحرب قرار اضطراري ذو أهداف سياسية يصبح في حكم اللاغي لدى تحققها. فإذا ما أعادت الرشد والمنطق إلى الرؤوس والقرارات والسياسات، كان من العبث الاستمرار بها حتى تحرق الأخضر واليابس في المنطقة، وهو سيناريو كارثي لا يخدم إلا أعداءها.