منذ البارحة والعالم العربي لا حديث له سوى فيديو ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” الذي أعدم فيه الطيار الأردني حرقاً. ولئن استغرقنا الساعات الأولى في امتصاص الصدمة وإظهار المواقف والتعليق على تفاصيل الفيديو ورسائله المتضمنة، إلا أنه ثمة حاجة ملحة للنظر في الأبعاد المستقبلية للفيديو غير العادي الذي بين أيدينا، وتأثيره على مجرى الأحداث بشكل عام.
لا شك أن هناك ملحوظات جديرة بالاهتمام و النقاش، مثل التبرير الشرعي الذي اعتمده التنظيم ومؤيدوه، متسلحين بادعاء فعل مشابه لبعض الصحابة – بغض النظر عن مدى الصحة وتفسيرات السياق – ومتجاهلين لحديث نبوي في صحيح البخاري، ومثل التفاصيل المتعلقة بالفيديو نفسه. وهي تفاصيل تتخطى عناوين الدقة والجرافيكس والمعلومات والأداء التمثيلي والتوقيت (بث الفيديو خلال زيارة الملك الأردني لواشنطن)، لتصل إلى أمور تبدو مستهجنة، على رأسها قراءة الكساسبة لنص قد أعد له، ومشاركته “بالأداء التمثيلي” في الفيلم، وصولاً إلى هدوء مبالغ به بينما كان ينتظر لهيب النار أن يصل إليه، دون حتى أن يكلف نفسه عناء خلع القميص المبلل بالبنزين مثلاً. لكن كل هذه النقاط – على أهميتها ووجاهة بعضها – ليست مناط البحث في هذه السطور.
التفصيل اللافت فيما سبق نشر الفيديو هو أن الكساسبة كان قد أعدم حرقاً قبل نحو شهر من الآن وفق المصادر الأردنية (ويعضد هذه الرواية هيئة الطيار في الفيديو)، أي قبل مفاوضات التنظيم مع الأردن للإبقاء على حياته، وهو أمر يستدعي البحث فيما وراء نوايا التنظيم من هذه المفاوضات، وأزعم أنها تتخطى مجرد المناورة السياسية إلى استهداف إبراز “فشل” الجانب الأردني في الحفاظ على حياة طياره.
النقطة الأخرى اللافتة للنظر في الفيديو – بعيداً عن مشهد إعدام الطيار – هي قائمة الطيارين الأردنيين المتضمنة في الفيديو، والمرفقة بعناوين سكنهم ومشفوعة بنداء وجهه التنظيم لمن يستطيع “القصاص” منهم مع وعد بجائزة مالية (لا يكتفي التنظيم هنا بالواجب أو الثواب الديني حافزاً !!). وإذا كان من بداهة القول أن النظام الأردني بالتأكيد سيحيط هؤلاء الطيارين بحماية خاصة بعد هذا التحريض العلني بما سيصعب من استهدافهم، فما الذي استهدفه ويستهدفه التنظيم من الفيديو والسياقات السابقة واللاحقة عليه، إذا ما وضعنا كل هذه الملحوظات في عين الاعتبار؟!
إن مجموع القطع الصغيرة للأحجية يقود إلى مشهد كبير واحد: هز الثقة بالنظام الأردني وزعزعة استقراره، عبر زيادة الغضب الشعبي على المشاركة الأردنية في التحالف الدولي، وإظهار فشله وعجزه أمام التنظيم، وزيادة التعاطف مع الأخير داخل الأردن، وحتى من خلال استفزازه للإقدام على خطوات متسرعة ومستفزة للتيار السلفي الأردني، مثل إعدام بعض رموزه أو التوغل أكثر في مهمات التحالف. إذ لا يجب أبداً التهوين من شأن هذا التيار في الأردن عدداً واستعداداً، وفي محافظات معينة مثل معان، فضلاً عن جو التوتر المنتشر في الأردن والمنطقة منذ سنوات.
هنا، ليس من الدقة اعتبار استمرار الأردن في المشاركة بل ورفع درجتها إضراراً بالتنظيم، بل على العكس تماماً قد يكون هذا تحديداً ما يريده الأخير. فمن الواضح أن الإبقاء على حياة الكساسبة كان سيزيد الضغط على النظام الأردني ويضعف من موقفه، بينما قتله حرقاً بهذه الطريقة سيزيد من الالتفاف حول القصر والحكومة وسيخفض أصوات المعارضين للمشاركة الأردنية وسط ضجيج المطالبات بالثأر والانتقام للكساسبة و”كرامة الأردن”.
من ناحية أخرى، ففلسفة التنظيم قائمة على “استدراج” أكبر عدد ممكن من الدول لمحاربته، ليس فقط لأن كثرة أعدائه تزيد من لحمته الداخلية وتكثر من أنصاره، بل أيضاً إيماناً منه بنبوءة تنسب للرسول صلى الله عليه وسلم عن حرب يشارك فيها 80 جيشاً أو “80 راية تواجه جيش المسلمين”، إضافة إلى أن هذا النوع من التنظيمات يتمدد في الفراغ ويتغذى على ضعف القبضة المركزية للدول والحكومات.
إن الهدف البعيد الذي يرنو إليه ما يسمى بتنظيم الدولة أو “داعش” هو الدخول للأردن أو على الأقل خلخلة الأمن فيه والتعرض لحدوده تحضيراً للدخول، وهو أمر متوقع بعد التراجع على عدة جبهات كان آخرها عين العرب/كوباني. فطبيعة التنظيم وأشباهه من التشكيلات تعمل وفق “نظرية البالون” إن جاز التعبير، إذ تسعى للتمدد في جهة مغايرة أو معاكسة لجهة الضغط عليها، فتتراجع من منطقة لتحاول التمدد نحو منطقة أخرى، ومن الواضح أن الأردن والسعودية سيكونان على خريطة التمدد الداعشية في المستقبل القريب.
إن الرسالة المتضمنة في فيديو الطيار الأردني (ومثيلاتها السابقات) تستهدف إظهار القوة والغلظة بل والوحشية، لأن شعبية التنظيم ومصادره البشرية تعتمد أساساً على مفهوم “القوة”، وبذلك يكون المستهدف من الفيديو هم فئة الشباب المتحمس والغاضب من سياسات البطش والظلم والقتل والانخراط في أحلاف غربية ضد شعوب المنطقة، واليائس من حالة الضعف والهوان وفقدان الأمل المنتشرة في مختلف البلاد.
نعم، إنها “باقية وتتمدد”. لا أتحدث عن التنظيم ولا عن “الدولة الإسلامية” التي يبشر أو يتسمى بها، بل عن الفوضى العارمة في المنطقة، التي تسعى لها وتستفيد منها المجموعات المتطرفة والحكومات الظالمة على حد سواء، وهما فكا الكماشة التي يراد للشعوب والشباب أن يُعصرا بينهما وأن يَختارا أحدهما بعد تغييب النماذج الأخرى أو تهميشها.