القمة العربية إذ تختار السقوط
المعهد المصري للدراسات السياسية والاستراتيجية
لو طلب مني تلخيص القمة العربية الثامنة والعشرين التي عقدت مؤخراً في العاصمة الأردنية بكلمة واحدة جامعة لاخترت “السقوط”. ليس المقصود هنا سقوط الرئيس اللبناني على وجهه أو سقوط حاكم دبي من على سلم الطائرة اللذيْن احتفت بهما وسائل الإعلام والناشطون الشباب على منصات التواصل الاجتماعي، بل أقصد السقوط المريع في القمة على صعيد الخطابات والمخرجات والقرارات والبيان الختامي الذي سمي “إعلان عمان”.
كما أن الأمر لا يتعلق بأحلام وردية أو سقوف عالية كنت أنتظرها من القمة فالأوضاع في العالم العربي معروفة وتاريخ القمم السابقة ماثل وأداء الأنظمة لا يختلف عليه اثنان، إنما هو سقوط حتى بالمعايير “الواقعية” المستمدة من مفردات الواقع العربي وحقائقه. إذ هنالك دائماً ما يمكن فعله حتى في ظل أسوأ الظروف وثمة صياغات وتعابير أفضل من أخرى وهناك دائماً إشارات توحي بوجود رؤية ما أو غيابها، إلا أن القمة أصرت على فعل اللاشيء واجترار خطابات اللاشيء مرة أخرى بطريقة بدت أكثر استفزازاً من كل سابقاتها.
تذكرنا كل قمة بأن المرحلة صعبة والظروف معقدة والخيارات محدودة والتحديات عظام واللحظة تاريخية، ونقول لهم في كل مرة إنهم أحق منا بالتذكير والتداول والعمل وفق ذلك. أتت هذه القمة بعد مجيء ترمب بخطابه العنصري وقراراته الصادمة، ومع تصاعد اليمين والإسلاموفوبيا في أوروبا، ومع ازدياد الصفاقة الصهونية ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية، إضافة للأوضاع غير الإنسانية في عدد كبير من الدول العربية في مقدمتها سوريا والعراق واليمن، فضلاً عن النتائج الكارثية للثورة المضادة على صعيد الدول والشعوب على حد سواء. بيد أن القمة العربية قدمت خطاباتها وأصدرت قراراتها وأعلنت بيانها وكأن شيئاً من هذا لم يكن ولم يحدث، ولم يشارك بعضهم فيه.
أصرت القمة العربية على “المبادرة العربية للسلام” بعد 15 عاماً كاملة من ضرب الكيان الصهيوني عرض الحائط بها وبكل من اعتمدها، وكأننا لم نعايش خلال هذه الفترة عدواناً على لبنان وثلاثة على قطاع غزة وغارات شبه يومية على سوريا وتهويداً غير مسبوق وخطة للتقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، ومن قبل ذلك كله حصار الرئيس الفلسطيني الراحل وقتله بالسم.
يتحدث بيان القمة عن “مصالحة تاريخية” مع “إسرائيل”، وكأن الكيان الصهيوني جار لنا معه مشكلة حدودية، أو كأن كل معضلتنا معه بعض التصرفات الاستفزازية هنا أو هناك، فلا حديث عن احتلال ولا عن عودة لاجئين ولا عن أي خيارات بديلة أو مفترضة أو حتى متوهمة.
يتحدث في القمة العربية جنرال انقلابي دموي عن الحرية والديمقراطية وكأنه لم يقتل الآلاف من شعبه ولا زج عشرات الآلاف منهم في السجون، ويتحدث زعيم في خريف العمر عن “وهم الربيع العربي” الذي أعاق التنمية وكأن الثورات أتت في زمن كانت الدول العربية تتصدر فيه قوائم التنمية العالمية، وخاطب الشبابَ العربي وأهدافَه وأحلامَه في القمة من تخطى عتبة التسعين ومن تجاوزوا حاجز الثمانين من العمر في لحظات استئنائية أفاقوا فيها من سباتهم.
حاولت القمة العربية أن تقنعنا بأن المشكلة الرئيسة في العالم العربي هي غياب العمل العربي المشترك وأن التنسيق والتعاون بين مختلف الدول كفيلان بإعادة الأمور إلى نصابها في العالم العربي المتشظي والمستباح، وهي سردية مقصودة لذاتها تماماً كما كانت سردية “الإرهاب” أيضاً مقصودة لذاتها ولغاية في نفوس اليعاقيب. هذا التناغم مع الرؤية الأمريكية للمنطقة ومشاكلها – وبالتالي الحلول المفترضة – يتماشى أيضاً مع اللغة الناعمة التي واجهت بها القمة خطة ترمب لنقل سفارة بلاده إلى القدس، لغة عممت الخطاب على “دول العالم” وتجاهلت صاحب الفكرة إما خوفاً وإشفاقاً منه أو تفهماً واحتراماً له.
بهذا المعنى، بدت القمة العربية الثامنة والعشرين وكأنها الإعلان الرسمي من النظام الرسمي العربي عن إغلاق صفحة الثورات العربية، ووصم أغلب القوى التي شاركت بها بالتطرف والإرهاب، وإعادة ساعة الزمن إلى ما قبل 2010، وتوصيف مشاكل العالم العربي وحلولها وفق هذه الرؤية. تجاهلت خطابات القمة وقراراتها وبيانها الختامي كل الظلم والفساد والمشاكل المستعصية في العالم العربي واعتبرت أن المشكلة تكمن فقط في عدم التنسيق بين مختلف الدول، وتحدثت عن “الإرهاب” دون ذكر أسبابه وكيفية علاجها ودون تعريف ما هو الإرهاب ومن هو الإرهابي، بل استخدم البعض خطاباً يحيل إلى تيارات سياسية بعينها الأمر الذي استدعى رداً وتحفظاً من أمير قطر، أحد الأصوات المتزنة القليلة في القمة.
لم تعد الغالبية العظمى من شعوب العالم العربي تتابع مجريات القمم العربية ولا تنتظر منها شيئاً، إلا أن هذه الجرأة والاستهتار والتحدي التي ظهرت في كلمات القمة وبين سطور بيانها الختامي سقطات كبيرة لا تؤكد بأن النظام الرسمي العربي غير آبه بمشاعر الشعوب ومستقبلها وحسب بل بأنه غير جاهز لأي تسويات أو حلول وسطى في إصرار واضح على إدامة ومفاقمة المشاكل والسياسات والأسباب التي أدت لانفجار الأوضاع في العالم العربي في نهايات 2010.
درس الثورات العربية كان واضحاً ودروس التاريخ أوضح حول الموجات الثورية التي تتالى تباعاً وبشكل أكثر عنفاً وفوضوية ودموية حين لا يمكن أو لا يراد الوصول لحلول وتسويات ترضي الحد الأدنى من مطالب الشعوب. هنا، لا تغامر بعض الأنظمة بحاضر ومستقبل شعوبها فقط بل بنفسها وكراسيها ومستقبل المنطقة برمتها، الأمر الذي يدفعني للإجابة على سؤال الإعلامي الكبير فوزي بشرى في سؤاله الألمعي الذي طرحه يوم تنحي حسني مبارك، قائلاً: “نعم، هنالك من القادة العرب من لم يزل لم يفهم الدرس، على بساطته”.