الفترات الانتقالية بين دروس التاريخ والفرص الضائعة

لا شك أن لكل منطقة جغرافية ظروفها، ولكل شعب خصائصه المميزة، ولكل فترة تاريخية سيرورتها الخاصة، لكن الظواهر الاجتماعية والتاريخية الكبيرة تشتمل على قواعد عامة متجاوزة للحدود المكانية والزمانية والخصائص العرقية والثقافية. ومن هذه الظواهر الفترات الانتقالية المصاحبة للأحداث الكبرى في التاريخ، ومن خصائصها الغموض والفوضى، وكثرة الضحايا والخسائر، وتغير الخرائط وموازين القوى.

هكذا كانت الثورة الفرنسية بداية سلسلة تطورات صاغت حدود القارة الأوروبية ووفرت إرهاصات الدولة الحديثة وفق المنظور الغربي، وهكذا شكلت الحرب العالمية الأولى خرائط المنطقة العربية تحديداً، وهكذا أدت الحرب العالمية الثانية إلى النظام الدولي ثنائي القطب، وهكذا أدى انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة إلى إعادة تعريف هذا النظام واشتعال الحروب وتغير التحالفات، وهكذا يجب علينا أن ننظر إلى الأحداث التي تمر بها منطقتنا، من الثورات إلى الثورات المضادة إلى الفوضى الحالية.

إن هذه الأحداث الكبيرة تؤدي إلى تقويض دول ونشأة دول أخرى، وإلى تعديل الحدود أو تغيير التحالفات ببساطة لأنها تدمر النظم والأسس التي تقوم عليها الدول والتوازنات الإقليمية أو الدولية، بينما تستفيد منها في المقام الأول كيانات ما دون الدولة، أي الأحزاب السياسية والتيارات الفكرية والفصائل المسلحة …الخ. وربما يمكن أن نعد ضمن أسباب ذلك تحررها من مسؤولية إدارة الدول، وتعرضها لضغوط أقل، وضعف السلطة المركزية في الدول التي تتواجد بها، إضافة إلى ما تستفيده من تجاذبات القوة وتوازناتها بين مختلف الدول والأحلاف الإقليمية والعالمية.

إذن، بحساب بسيط نستطيع أن نقول إن حالة السيولة التي يمر بها العالم العربي بشكل عام هي فرصة لقوى الثورة المتقهقرة، رغم ما فيها أيضاً من تضحيات وأثمان فادحة، إنْ احسنت استثمار ذلك وبنت عليه وفق رؤية محددة واستراتيجية واضحة.

في كتابه “العمق الاستراتيجي، موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية” يصنف أحمد داود أوغلو الدول والمجتمعات حسب منهجها إزاء التحولات “الدولية الديناميكية” إلى ثلاث:

الأولى، تلك التي تتبنى موقفاً جامداً وتنكفئ على نفسها في انتظار استقرار النظام الدولي، بسبب فقدانها الثقة بالنفس والقدرة على توجيه الديناميكيات.

الثانية، تلك التي تنساق وراء التغيرات دون هدف أو تخطيط، لجهلها بعناصر قوتها الذاتية وحقائق مجرى التاريخ، فتنظر إلى مركز القوة الدولية باعتباره العنصر المؤثر، وإلى ذاتها على أنها عنصر هامشي عديم التأثير مسلوب القرار.

الثالثة، تلك التي تبذل الجهود من أجل تحويل قواها الكامنة إلى عناصر قوة، وهو خيار يصدر عن وجهة نظر تستطيع رسم وتوضيح وفهم عناصر القوة والديناميكية الذاتية والدولية.

ومن البديهي أن هذا التصنيف ينطبق على التيارات والحركات والكيانات الصغيرة إزاء المتغيرات الإقليمية بنفس الدرجة التي ينطبق فيها على الدول والأحلاف إزاء المتغيرات الدولية. لكن النتائج بطبيعة الحال ليست تلقائية أو عشوائية بل مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بثلاثة عوامل: الرؤية والاستراتيجية ودراسة عناصر القوة، وهو ما يتطلب الكثير من البحث والعمل والتقييم والمراجعات، لرفع معطيات الواقع ورسم الاستراتيجية السليمة واستثمار حالة السيولة والفوضى القائمة.

إن قوى الربيع العربي، ورغم تراجعها الواضح أمام الثورة المضادة وقواها، تملك من عناصر القوة الكثير، بل ربما تضطر بعض القوى الإقليمية للتعاون معها اعترافاً بقوتها وتأثيرها. لكن المهم هنا هو أن تستثمر هذه القوى – وفي مقدمتها الحركات الإسلامية – حالة السيولة الإقليمية وضعف الدول وفقدانها السيطرة المركزية لخدمة أهداف الثورة، وإلا تحولت إلى أداة بيد القوى والتحالفات الإقليمية، والعامل الأساس الذي يحدد ذلك فيؤدي إلى الأولى ويعصم من الثانية هو امتلاك ثلاثية الرؤية والاستراتيجية وإدراك عناصر القوة.

 

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

عاصفة الحزم وتركيا وفرص السيناريو السوري

المقالة التالية

القوائم الانتخابية للأحزاب التركية .. لقطات ودلالات

المنشورات ذات الصلة