العملية التركية المرتقبة في سوريا: تهديد أم تنفيذ؟
الجزيرة نت
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن بلاده ستشن عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا لاستكمال المنطقة الآمنة التي تسعى لها هناك.
مشروع لم يستكمل
كانت تركيا قد تدخلت عسكرياً في سوريا عام 2016 منعاً لما تسميه “إنشاء ممر إرهابي” على حدودها الجنوبية، أي تأسيس القوى المرتبطة بحزب العمال الكردستاني الانفصالي والمصنف على قوائم الإرهاب كياناً سياسياً في شمال سوريا، لا سيما بعد أن كسر الأخير الهدنة معها واستأنف عملياته العسكرية وخاض حرب مدن وشوارع في المناطق ذات الأغلبية الكردية في البلاد بعد إعلان “الإدارات الذاتية” فيها.
وكان حزب الاتحاد الديمقراطي قد أعلن عن إدارات ذاتية في ثلاث كانتونات في الشمال السوري مطلع العام 2014، ولذا فقد هدفت العملية التركية الأولى “درع الفرات” في آب/أغسطس 2016 لمنع التواصل الجغرافي بينها، إضافة لمكافحة تنظيم الدولة “داعش” في تلك المناطق.
أما العملية الثانية، “غصن الزيتون”، التي أطلقتها تركيا في كانون الثاني/يناير 2018 فقد أخرجت وحدات حماية الشعب (الذراع المسلحة للاتحاد الديمقراطي) من منطقة عفرين شمال غرب سوريا، مانعة تواصلها مع ساحل المتوسط وحابسةً تواجدها الجغرافي ما بين الداخل السوري وحدود تركيا الجنوبية.
وفي تشرين الأول/أوكتوبر 2019 شنت أنقرة عملية “نبع السلام” ضد قوات سوريا الديمقراطية وأعلنت أن هدفها إنشاء منطقة آمنة على الحدود التركية – السورية بعمق 30 كلم وطول 432 كلم. وقد انتهت هذه العملية بتوافقات وتفاهمات تركية مع كل من الولايات المتحدة وروسيا تعهدتا بموجبها بإبعاد مسلحي “قسد” حتى عمق 30 كلم من الحدود.
وأما العملية الأخيرة، “درع الربيع”، فقد كانت مختلفة نوعاً ما إذ نفذتها تركيا مع فصائل المعارضة السورية المقربة منها في شباط/فبراير 2022 ضد قوات النظام السوري بعد أن سقط عشرات القتلى في صفوف المجندين الأتراك في سوريا في قصف جوي اتهمت أنقرة النظام بتنفيذه.
السياق والفرص
مما سبق يمكن الخروج بثلاث خلاصات رئيسة. أولاها أن الهدف الرئيس والأولوية الأولى لتركيا في سوريا هي منع تشكل كيان سياسي للقوى المرتبطة عضوياً بالعمال الكردستاني في سوريا. والثانية أن الرؤية التركية بإنشاء منطقة آمنة تبعد مسلحي “قسد” عن أراضيها 30 كلم على طول الحدود لم تتم حتى النهاية. والثالثة أن الولايات المتحدة وروسيا لم تفيا بالتفاهمات التي أبرمتاها مع أنقرة بالكامل، ما دفع الأخيرة للتلويح بشكل متكرر بإطلاق عملية جديدة تستكمل المهمة.
أكثر من مرة توعد الرئيس التركي قوات سوريا الديمقراطية بعملية مفاجئة، لكن التهديد الأخير بدا مختلفاً وأكثر جدية ودفع لتوقع عملية وشيكة هذه المرة بالنظر إلى توقيته وسياقه. ففي المقام الأول يرتبط التوقيت والسياق بشكل وثيق بالحرب الروسية على أوكرانيا، والتي دفعت موسكو للانشغال عن الملف السوري جزئياً ونسبياً وإلى إعادة موضعة قواتها، ما قد يعني حدوث ثغرات وفراغ ستكون أنقرة من أوائل المهتمين بملئها.
وثانياً، تعيش تركيا حالياً حقبة تؤكد فيها للغرب، الولايات المتحدة وحلف الناتو، على أهميتها والأدوار التي يمكن لها لعبها ويصعب على غيرها الحلول مكانها فيها على حد تعبير السفير الأمريكي السابق في أنقرة والدبلوماسي المخضرم جيمس جيفري. ذلك أن موقفها في الأزمة الأوكرانية ابتداءً، ثم دور الوساطة الذي لعبته بين موسكو وكييف، وأهميتها في منظومة الأمن الأوروبي لمواجهة التحديات المستجدة رفعت من أسهمها بالنسبة لحلفائها الغربيين في العموم. كما أن موقفها المعلن برفض انضمام السويد وفنلندا للناتو دون تحقيق مطالبها المتعلقة بحظر السلاح ودعم المنظمات الإرهابية يمنحها أوراق تفاوض وقوة مقابلهم.
وأخيراً، فإن التهديد يأتي في ظل حديث أنقرة عن إعدادها مشروعاً لإعادة مليون سوري إلى بلادهم، حيث أن من أهم متطلبات ذلك المشروع مناطق تستوعب العائدين وكذلك ضمان أمنهم وعدم تعرضهم للقصف أو الاعتداء، وقد كان لافتاً حديث أردوغان – في سياق التلويح بالعملية – عن “منع الهجمات والاعتداءات على المنطقة الآمنة” وليس فقط على الجنود الأتراك.
ساعة الصفر؟
أشار أردوغان في حديثه إلى اجتماع مجلس الأمن القومي، والذي عقد في الـ 26 من أيار/مايو وذكر في البند الثاني من بيانه الختامي أن العمليات التي أجريت “والتي ستجرى” لإزالة خطر الإرهاب عن الحدود الجنوبية لتركيا لا تستهدف سيادة الدول الجارة ولا وحدة أراضيها، ما يُعدُّ إشارة لعملية مرتقبة من جهة وتطمينات لمختلف الأطراف من جهة ثانية.
كما أن التقارير الميدانية من المناطق الحدودية تقول إن القوات المسلحة التركية تعمل على استكمال الإعداد للعملية، حتى أن أحد أهم المراسلين الميدانيين نقل عن مصادر عسكرية أن عملية الإعداد بلغت زهاء %90 من المطلوب لإطلاقها.
لكن، من جهة أخرى، من المهم الإشارة إلى أن الإعداد للعملية ومتطلباتها ليست عسكرية – لوجستية فقط وإنما ثمة شبكة أمان سياسية مطلوبة تتعلق بتسويغ العملية وقبول مختلف الأطراف المنخرطة في القضية السورية بها وعدم إعاقتها لها. في هذا الإطار قرئ تصريح وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن نية الولايات المتحدة تقسيم سوريا من خلال دعم “الأكراد” وأن تركيا “لا يسعها البقاء متفرجة على ذلك” كإشارة على موافقة ضمنية أو ضوء أخضر روسي لعملية تتجه نحو شرق الفرات.
وبالتالي، يمكن القول إن التلويح بالعملية هدفه الرئيس الضغط على كل من موسكو وواشنطن وتذكيرهما بالتزاماتها وفق التفاهمات السابقة، وبالتالي يمكن – على سبيل الاحتمال – توقع حصول تفاهمات جديدة قد تؤجل العملية في الوقت الراهن إن حققت الحد الأدنى من المطالب التركية.
لكن أنقرة أثبتت كذلك سابقاً أنها لا تنتظر موافقة كاملة من الولايات المتحدة وروسيا وأنها يمكن أن تشن عمليات عسكرية رغم معارضتهما إذا ما رأت أنها ضرورة لأمنها القومي، وهو ما يجعل الحديث المستجد عن العملية العسكرية مختلفاً عن سوابقه ويجعل احتمالات إطلاق العملية أكبر بكثير من السابق. ويدعم هذه الفرضية أن الظروف سالفة الذكر قد تدفع الولايات المتحدة على وجه التحديد للسكوت عن العملية وعدم العمل على إيقافها أو تصعيبها بشكل عملي.
وبالنظر للرؤية التركية والعمليات السابقة وخصوصاً “نبع السلام”، تأتي تل رفعت ومنبج في مقدمة المناطق التي يمكن أن تستهدفها العملية التركية المرتقبة، فضلاً عن عدة مدن وبلدات على الشريط الحدودي شرق الفرات مثل عين العرب/كوباني وعين عيسى وغيرهما.
وبالعودة إلى التصريحات التركية السابقة بالرغبة في إنشاء منطقة آمنة على طول الحدود حتى الحدود العراقية، فإن ذلك يعني احتمالين رئيسين، عملية كبيرة وموسعة أو عدة عمليات محدودة مع ما قد يرافقها من اتفاقات وتفاهمات مع واشنطن على وجه الخصوص.
ولذلك، وبالنظر للمعطيات الميدانية والسياسية، يمكن القول إن عملية موسعة تستهدف كامل المنطقة المشار لها مستبعدة في الوقت الراهن، لكنها تبقى بالنسبة لأنقرة أهدافاً مرحّلة مؤقتاً ولكن في صلب الرؤية المستقبلية، بانتظار نضوج الظروف المثلى لتحقيقها وفق استراتيجية الخطوات المتدرجة التي يبني بعضها اللاحق على السابق.
ختاماً، وفي كل الأحوال، فإن اللحظة الحالية بالنسبة لأنقرة تحمل فرصة غير مسبوقة لتحقيق نقاط إضافية في صالح رؤيتها في مواجهة العمال الكردستاني وأذرعه في سوريا. وإن كان لا ينقص أنقرة القدرات العسكرية على شن العملية، إلا أنها تتوخى الظروف السياسية الأفضل لها إذ ذلك أجدر أن تكون فرص نجاحها أكبر وخسائرها المحتملة أقل، لا سيما وهي تواجه بشكل غير مباشر كلاً من موسكو وواشنطن، والأخيرة على وجه التحديد قادرة على نزع فتيل العملية إذا ما قدمت لأنقرة ما يرضيها بالحد الأدنى مرحلياً.