العلاقات بين أنقرة ودمشق: الداوفع والعقبات

العلاقات بين أنقرة ودمشق: الداوفع والعقبات

الجزيرة نت

بعد تصريحات وزير الخارجية التركي الأسبوع الفائت، أتت تعقيبات الرئيس أردوغان على الأمر خلال عودته من أوكرانيا لترجح فكرة تطوير العلاقات بين أنقرة والنظام السوري.

 

تصريحات اردوغان

كان وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قد قال الأسبوع الفائت إن هناك ضرورة لمصالحة المعارضة السورية والنظام لتأسيس سلام واستقرار في سوريا يمكّن من مكافحة الإرهاب، إضافة لحديثه عن لقاء عابر له مع وزير الخارجية السوري فيصل مقداد قبل أشهر على هامش قمة دول عدم الانحياز.

الجدل الكبير الذي تسببت به هذه التصريحات، إضافة لردة الفعل في الشمال السوري، دفعت وزارة الخارجية التركية لإصدار بيان يفسر تصريحات الوزير على أنها استمرار لسياسة تركيا الداعمة لحل سياسي يراعي مطالب الشعب السوري، ومؤكداً على أن تركيا “ستبقى متضامنة مع الشعب السوري”.

المعارضة التركية تلقفت تصريحات الوزير وسوّقتها على أنها انتصار لها، من باب أن الحكومة قد “حاولت إسقاط الأسد، وحين فشلت عادت لمصالحته”. سئل الرئيس التركي عن ذلك خلال رحلة عودته من أوكرانيا، فكان رده أن تركيا “لم يكن هدفها أو همُّها هزيمة الأسد” وإنما كانت كل خطواتها في سوريا في إطار مكافحة الإرهاب.

وأكمل أردوغان أن بلاده ليس لها أطماع بخصوص الأراضي السورية، وأنه لا يمكن استمرار القطيعة بين الدول، مؤكداً على ضرورة الحوار وأهميته، وداعياً لوصول السوريين قريباً لمحطة صياغة الدستور، ومتحدثاً عن أمله في “خطوات متقدمة لبلاده مع سوريا” سيكون من شأنها المساهمة في “إفساد الكثير من الخطط في المنطقة والعالم الإسلامي”.

صحيفة تركيا، المقربة من الحكومة، نقلت النقاش إلى مساحة جديدة، حين نقلت عن مصادر لم تسمها وجود شروط متبادلة بين أنقرة ودمشق لـ”إعادة فتح قنوات الاتصال وتطبيع العلاقات” بينهما.

وحسب الصحيفة فإن النظام السوري قد اشترط أموراً مثل إعادة محافظة إدلب لإدارته، نقل معابر حدودية لسلطته والسيطرة الكاملة على طريق M4 التجاري الدولي، امتناع تركيا عن دعم العقوبات الغربية على رجال الأعمال السوريين، مناقشة الدعم المطلوب من أنقرة لإعادة  سوريا للجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وغيرهما من الهيئات الدولية، والتعاون في مكافحة الإرهاب وإعادة النفط للحكومة السورية.

في المقابل، وحسب الصحيفة، فإن لتركيا أيضاً شروط قبل فتح قنوات الاتصال وتطبيع العلاقات، وهي تطهير المنطقة بالكامل من عناصر حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب، والقضاء التام على التهديد الإرهابي على الحدود التركية – السورية، والاستكمال التام لعمليات التكامل السياسي والعسكري بين المعارضة والحكومة السوريتين والعودة الآمنة للاجئين، بدء عودة اللاجئين في المرحلة الأولى التجريبية لدمشق وحمص وحلب مع مراقبة تركيا لمجمل العملية، وتطبيق مسار جنيف وكتابة دستور ديمقراطي وإجراء انتخابات حرة والإفراج الفوري عن السجناء السياسيين.

الخبر أوحى بوجود محادثات غير مباشرة بين أنقرة ودمشق (بوساطة روسية؟) لتطبيع العلاقات، ومما يدعم هذه الفرضية أن التصريحات التركية المتلاحقة أتت بعد قمة سوتشي الأخيرة التي جمعت بين بوتين وأردوغان، لا سيما وأن الأخير جدَّد اتهام الولايات المتحدة والتحالف الدولي بدعم الإرهاب في سوريا بلهجة حادة.

 

حدود العلاقات

كل ما سبق أوحى بأن تركيا تسعى لتطبيع العلاقات بالكامل مع النظام السوري أسوة بمساعيها مع دول وأطراف أخرى مثل الإمارات والسعودية ومصر، وحتى “إسرائيل” كما حصل مؤخراً.

وبعيداً عن حديث الرغبات والأماني، فإن نقاش الممكنات يدفعنا لتقييم دوافع التقارب بين الجانبين وكذلك كوابحه ومعيقاته، وقبل هذه وتلك التذكير بالسياقات العامة التي تسبق الحدث الحالي وفي مقدمتها إغلاق صفحة الربيع العربي إقليمياً، وأولوية مكافحة الإرهاب بالنسبة لأنقرة، ومسار التهدئة والحوار في المنطقة عموماً، وتبدل الموقف التركي من القضية السورية سابقاً حسب التطورات، وقناة التواصل الاستخباراتية القائمة بين الجانبين.

فمما يدفع تركيا لفتح قنوات التواصل مع النظام السوري فكرةُ المصالح المشتركة مثل مكافحة المنظمات الانفصالية والإرهابية لحفظ أمن الحدود والأراضي التركية وكذلك مشروع عودة/إعادة السوريين المقيمين في تركيا. ومنها كذلك السعي الروسي للتوسط بين الجانبين مؤخراً وتقديم النظام كبديل عن قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في الشمال وعن العملية التي تلوّح بها تركيا منذ شهور.

ومن الدوافع أيضاً الموقف الغربي عموماً والأمريكي على وجه الخصوص من قسد ووحدات الحماية بما يتجاهل متطلبات الأمن القومي التركي.

ومنها كذلك استحالة الحل العسكري واستعصاء الحل السياسي وفق المعطيات الحالية. ذلك أن حالة المواجهة العسكرية بين النظام والمعارضة – وبالتالي إنهاء أحدهما للآخر – لم تعد قائمة، كما أن المسار السياسي وفق موازين القوى الحالية وحالة الجمود القائمة من الصعب أن يفضي لفترة انتقالية وحكومة جديدة وفق القرار 2254 وإنما إلى حالة أقرب للتصور الروسي وهي إصلاحات تحت سقف النظام (وربما إعادة هيكلته).

ولعل الدافع الأهم بالنسبة للحكومة التركية هو الرأي السائد داخلياً بفوائد التعاون مع النظام، بما يكفل مكافحة الإرهاب ومنع تقسيم سوريا من جهة وعودة اللاجئين من جهة أخرى. هذا النقاش تبنته المعارضة التركية لسنوات عديدة، لكن بات يتردد مؤخراً على ألسنة وأقلام مقربة من الحكومة والحزب الحاكم كذلك. ولعل تأجيل العملية التركية كل هذه الفترة يحيج الحكومة إلى تقديم إنجاز ما بخصوص الملف السوري، الذي بات في مقدمة الملفات المطروحة على أجندة الانتخابات وحملاتها، وفق ما تظهر استطلاعات الرأي التي توليها الحكومة التركية اهتماماً كبيراً.

في المقابل، ورغم كل هذه الدوافع، ما زالت تقف في طريق تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق عقبات كبيرة وحقيقية. أهمها أن التطبيع الكامل للعلاقات بين الجانبين سيعني اعترافاً واضحاً وكاملاً من تركيا بالنظام السوري، ما قد يفتح الباب على مطالبة الأخير لها بسحب قواتها ومغادرة الأراضي السورية، وهذا ما لا تريده أنقرة في الوقت الحالي ودون ضمان أمنها.

والمانع الثاني هو كل ما بنته السنوات العشر الماضية بين الجانبين من سدود وفجوات ومواجهات مباشرة وغير مباشرة لن يكون من السهل تناسيها أو القفز عنها، كما سيصعب تسويق ذلك شعبياً وداخلياً.

ومن العقبات كذلك الشروط المتبادلة بين الجانبين، حيث أن بعضها يعاكس رغبة و/أو يتجاوز قدرة الطرف الآخر، أقله وفق الظروف الحالية، وخصوصاً ما يتعلق بإدلب ضمن شروط النظام ومسار الإصلاح السياسي والانتخابات ضمن الشروط التركية، وفق ما سرّب.

ومنها أيضاً أن التقارب بل والتعاون مع النظام قد لا يحقق لتركيا أولويتها هناك، أي إبعاد عناصر قسد والعمال الكردستاني عن حدودها، في ظل تجارب عديدة سابقة من تبادل الأدوار بين الأخيرة والنظام للالتفاف على العمليات التركية التي تستهدفها.

وأخيراً، فإن موقف الشمال السوري الشعبية والفصائلية بعد حديث وزير الخارجية التركي عن ضرورة تحقيق مصالحة بين النظام والمعارضة يعطي رسائل ذات دلالة لأنقرة بخصوص المسارات المستقبلية، ولعل ذلك يقلقها تحديداً بخصوص العمليات العسكرية التي تخوضها قواتها مع بعض الفصائل السورية.

وبالنظر إلى ما سبق من دوافع وعقبات للمسار، يمكن الخروج باستخلاصين أساسيين:

الأول، أن كل ما يتعلق بالنظام السوري من قدرات وسيطرة وأدوات سياسية وعسكرية وغيرها ليست المعيار الوحيد ولا حتى الرئيس بخصوص قرار أنقرة حول العلاقة معه، بل إن هناك ما يرجَحُ عليه في كفة صناعة القرار مثل المعادلات الداخلية والدور الروسي وتحركات قسد والموقف الأمريكي ..الخ.

الثاني، أن تطبيعاً كاملاً للعلاقات بين الجانبين ليس مرجحاً حالياً بل ولا يبدو وشيكاً، وأن احتمال أن تكون التصريحات التركية مجرد مناورة للضغط على الحلفاء الغربيين ضئيل كذلك. المرجّح هو تطوير العلاقات بشكل بطيء ومتدرج، بحيث يشمل ذلك خطوات من قبيل إقرار تركيا بحلول النظام مكان قسد في بعض المناطق، وتعديل اتفاق أضنة بين الجانبين، وبناء علاقات سياسية متدنية المستوى في البدايات وتطويرها مع الوقت.

مسار من هذا القبيل، إن تحقق، كفيل بأن يقدم للطرفين فرصة لإثبات حسن النوايا واختبار نوايا الطرف الآخر، وعدم الندم على خطوات قد تبدو متسرعة أو غير ناضجة، ومراكمة النقاط الصغيرة والتفصيلية مع الوقت، دون التفريط بالمكاسب التي يحظى بها حالياً وخصوصاً تركيا التي لن ترغب بسحب قواتها من سوريا بدون ضمان أمنها بالكامل.

ولذلك، وبناء على ما سبق، فإن إمكانية تطوير العلاقات مع النظام لا تعني تغيراً جذرياً في موازين القوى في الشمال السوري ولا في المعادلات القائمة هناك، ولا من المرجح أن تتخلى أنقرة عن ورقة المعارضة السورية في المرحلة الراهنة، فليس من المنطق أو المتوقع أن تذهب للتقارب مع النظام متخلية عن واحدة من أهم أوراق قوتها في القضية السورية.

أما فرص نجاح هذا المسار فمن الصعب الجزم بها في الوقت الراهن، فذلك سيخضع لإرادة عدة أطراف إضافة لكل من أنقرة ودمشق، والتطورات الميدانية، ومسار العلاقات بين تركيا من جهة والولايات المتحدة وروسيا من جهة أخرى، وعوامل أخرى عديدة.

Total
0
Shares

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

المقال السابق

أربع خلاصات رئيسة من التصعيد الأخير في غزة

المقالة التالية

إلى أي مدى تغير موقف تركيا من النظام السوري؟

المنشورات ذات الصلة